شعار قسم مدونات

قصتي مع فلسطين

النفير والرباط سلاح الفلسطينيين للدفاع عن الأقصى والمقدسات
النفير والرباط سلاح الفلسطينيين للدفاع عن الأقصى والمقدسات (الجزيرة)

كانت الشمس تتوهج حرارة حين خطوت إلى قاعة المؤتمرات لمدرستي، فإذا جدرانها تستميلني بما عليها من صور يظهر فيها شيخ ينحني ظهره، أسبل على رأسه غترة بيضاء، وجبينه الواسع يشع نورًا، وكانت ابتسامته الممزوجة بالألم والأمل تحكي رواية نسجت فصولها بالدماء والأشلاء، لمّا سألت عنه فقيل لي: هو الشيخ أحمد ياسين.

كانت البداية ونعم هذه البداية، عرفت فيها أنّ هناك بقعة على أرض العرب تسمّى بفلسطين، وسكانها يُظْلَمون ليلًا ونهارًا، كنت جاهلا عن موقعها الجغرافي، وطبيعة الصراع المحتدم، والمقاومة الباسلة. كان ذكرها يعلو و يطفو، حينما يشتد العدوان الإسرائيلي يتهادى إلى أسماعنا أصوات تحرّض على مقاطعة منتجات الكيان الصهيوني، ونمنع من شرب البيبسي وتناول بعض الوجبات الخفيفة أيّاما، ثم تعود الأمور إلى نصابها.

لمّا ناهزت الـ 12 من عمري، أهدي إلي كتاب يروي حياة الشهيد حسن البنا في قالب روائي، فاستلبّ فؤادي، ونشأ بين جوانحي حبّ متأصّل لهذا الرجل الذي استوفى معاني العظمة ومعايير الرجولة وشروط الإيمان، لم أكن أعرف آنذاك المقاييس التي تقاس بها الشخصيات، وتحدد بها مواضعها في متحف التاريخ، فأعجبني في البنّا وضوح فكرته، وبساطة فلسفته، والهموم التي عششت في قلبه منذ الصغر.

ما جذب عنايتي أنّه أفرغ كل جهوده لردع الصهاينة شذاذ الآفاق، طريدي الأعتاب من التزاحم على فلسطين، واسترخص له كلّ شيء.

كبرت قليلاً وتفرّعت اهتماماتي، وكنت أزجي ساعات في متابعة السياسة الدولية، أشاهد دهاء الأجانب وسذاجة الأقارب، وشعوبًا يطحنها حكّامهم، وحكاّما يستجدون أسيادهم، وحروبًا لا تشيخ، ومطامع لا تنتهي. كانت القضية الفلسطينية تتصدّر، هي محور الأفكار، وموضوع الأسمار، أنظر إليها من زوايا عديدة، أصل خيوط التاريخ بتضاريس الجغرافيا عسى أن أخلص إلى نتيجة.

وتفرجّت على مسرحية التاريخ الحديث، فإذا المسود يصبح سيّدًا، وتتقاسم القوى الاستعمارية البلاد العربية فيما بينها تقاسم الإخوة قِطَع الكعكة، ترسم الحدود المصطنعة، وما قصّة سايكس- بيكو عنكم ببعيدة.

بدا لي وجه النظام العالمي رطيبا مشرقاً وقلبه بائسًا مظلما، ورأيت سدنة الديمقراطية لا يفتؤون من جعجعة حقوق الإنسان، وثرثرة العدالة الاجتماعية وشنشنة المساواة، ثمّ تسيل ثروات الآخرين لعابهم، فتتلاشى القيم وتتميع الثوابت وتتحكّم الغرائز.

طعنت القوى الاستعمارية خنجرًا مسمومًا في قلب العالم الاسلامي حين أباحت للصهاينة الهجرة إلى فلسطين، ووطّأت لهم السبل.

انفجرت ضاحكًا على "وعد بلفور" وداهمني العجب: كيف يعقل منح قوّة استعماريّة موطن شعب آخر للأجانب، إنّه ليس وعداً بل إنه غدرٌ. عرفت فيما بعد أنّ الغرب أصاب هدفين: حاول التخلّص من ثقل اليهود، وصان مصالحه في الشرق الأوسط، فوُلِد كيان وظيفي عام 1948 كما وصفه الدكتور عبد الوهاب المسيري.

ثمّ علمت أنّ هناك شيئا اسمه " الأمم المتحدة"، هي منظمّة تحلم بإرساء قواعد العدل وبسط جناح الأمن في العالم، وهي الملجأ كلّما حزب الأمر بين الدول.

وعلى كلّ دولة أن تستسلم لقراراتها وأحكامها وإلاّ فهي تعتبر مارقة منبوذة، لا تصلح للبقاء في هذا العالم المتحضّر. ولكن شذّ الكيان في فلسطين عن هذه القاعدة، هو يرقص على جماجم أصحاب الأرض، ويذبحهم على مشهد من النّاس ومرآهم، فلا عقوبة تفرض، بل تبرر جرائمه بأدلّة أوهن من بيت العنكبوت.

قد أدركت الآن أنّ النظام السياسي قد عجنت طينته بالازدواجية. ومن أتقن فيها سلست له الأمور.

قد لمست التشابه بين القيادة العربية والدولة الصهيونية، كلتاهما تستظهر بالخارج، حبلهما معقودة بقوى النفوذ الدولي. الأدهى والأمرّ أنّ الاحتلال دائماً يتفنّن في تجميل صورته وإلباسه الشرعيّة، ويتفقّد في البلد المحتلّ خائري العزائم ضعفاء الهمّة، ويجبرهم على إبرام الاتفاقيات، ويكبلهم بألف كبل، ويعدهم وعوداً معسولة، فيخلدون إلى الاستخذاء ويركبهم الهوان، هذا ما حدث مع السلطة الفلسطينية.

هذه النخبة الحاكمة نراها تنال حظوة في المحافل الدولية، وتستضيفها حصون الفكر ومراكز البحث، وتسبغ عليها ألقاباً واسعة، وتُوهمها بأنّها "المعتدلة" ولكنّ الشعب لو خلي سبيله لرماها بعيداً.

من مكائد العدوّ أنّك إن ركعت أمامه قليلا سيُسجدك ولا يدعك حتّى يمرّغ أنفك بالتراب، يدرك أعزّة النفس الأشاوس هذه النقطة كلّ الادراك، ويتماسكون أنفسهم لحظات الوهن، ويثبتون ثبات الرواسي، فتتحطم عليهم أمواج المصائب وترتدّ خاسرة.

وهؤلاء حملة فوانيس الأمل، مناصرتهم ولو بكلمة واجب ديني وخلقي. ولن يحصد مناوئهم إلاّ الخيبة.

قال الرسّام الفلسطينى الشهيد ناجي العلى: أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر. وقد تحققت نبوءته، فلم تصبح وجهة نظر بل عقيدة يتشبّث بها بعض المنسلخين عن هويّتهم، رأيناهم يمضغون رواية المحتليّن، ويجيشون لها جيوش الإعلام العرمرم، ولا يرقبون في ذلك إلاّ ولا ذمّة.

ما أحنى الرأس خجلًا أنّ فئة من العلماء اتّخِذت مطايا لتمويه بعض الحقائق وسوق الأمور إلى غير مساقها، فتقلقلت ثقة الأمّة ببعض العلماء وساء ظنّهم بهم، وهذا ينذر بالويل العظيم.

ولكن تتعلّق الآمال بهذا الجيل الطموح الثائر الذي ولد بعد أوسلو، وطرق أساليب جديدة للمقاومة، وانتزع النصر انتزاعاً من فكّي هذا العالم الجائر.

قصّة فلسطين هي أروع القصص، تجنح إليها النفس وتستلهم الهمّة والعزيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.