شعار قسم مدونات

سياقات التحوير الوزاري في تونس.. هل انطلقت المعركة؟

 

في مشهد ديمقراطي متكرر ومألوف لدى الشعب التونسي، الذي قرر منذ 10 سنوات الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، واعتماد الديمقراطية سبيلا وحيدا لحسم الخلافات بين جميع التيارات السياسية، صادق البرلمان التونسي على تحوير وزاري تم اقتراحه من رئيس الحكومة هشام المشيشي، الذي عرض تركيبة تضم 13 وزيرا بقصد نيل ثقة البرلمان. لم تأت هذه المصادقة في ظروف عادية وطبيعية؛ بل جاءت في خضم احتقان سياسي واقتصادي واجتماعي إضافة إلى انتشار غير مسبوق لفيروس كورونا وارتفاع عدد الوفيات.

حظي هذا التحوير بأغلبية مريحة من أعضاء مجلس نواب الشعب، حيث يبدو في ظاهره تجديد ثقة في رئيس الحكومة من البرلمان، وانطلاقة جديدة لمؤسسات الدولة بعد حالة العطالة، التي بلغتها في الفترة الأخيرة، خاصة على مستوى جهازها التنفيذي.

وجاء هذا التحوير بعد أن بدأت بعض الخلافات تطفو على السطح بالتلميح أحيانا والتصريح أحيانا أخرى، خاصّة من جهة رئيس الجمهورية، الذي خرج للعلن وعبّر عن رفضه للسياسات المنتهجة من رئيس الحكومة، والتي وصلت إلى حد التهديد بعدم الاستجابة لإجراء أعضاء الحكومة المقترحين اليمين الدستورية؛ مما قد يفتح تأويلات متعددة للدستور، ويفتح آفاقا لأسئلة عاجلة وضرورية؛ أيُّ مستقبل للعلاقة بين مؤسسات الدولة؟ هل يمثل رئيس الدولة جزءا من الحل أم من المشكلة؟ هل التحوير الوزاري نقطة انطلاقة جديدة في إنفاذ الإصلاحات أم إعادة إنتاج للأزمة؟ كيف يمكن تجاوز الأزمة رغم تباين وجهات النظر؟ ماهي النتائج المحتملة للحوار الاقتصادي والاجتماعي المرتقب؟.

في هذا الصدد لا يمكن قراءة هذا الحدث واستشراف السيناريوهات المستقبلية بدون العودة إلى بعض الأحداث السابقة، التي تميزت بمنعرجات عديدة وتقلبات متنوعة، أشارت بدورها إلى بروز تباين واضح في وجهات النظر بين المؤسسات السيادية وصل لحدّ التنازع حول السلطات في ظل غياب المحكمة الدستورية، التي يمكن أن تكون الحلّ الأمثل لحسم الخلافات.

ولا يخفى على أحد أن انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019 أنتجت مشهدا سياسيا مشتّتا وجامعا لكل التناقضات، بواسطة قانون انتخابي لا يتيح فرصة بروز أغلبية واضحة ومريحة قادرة على الحكم، إضافة إلى صعود رئيس جمهورية بدون تجربة سياسية سابقة وبدون كتلة برلمانية تسند توجهاته؛ ممّا أشار إلى إمكانية غياب روح الانسجام بين مؤسسات الدولة منذ البداية، وهو ما سنكتشفه قطعا بعد قرابة سنة ونصف السنة من هذه الانتخابات الأخيرة، التي شهدت منسوبا من الاحتقان والخطابات التحشيدية والاستقطاب في كلّ الاتجاهات، لتنتهي بإفراز برلمان يجمع كلّ الحساسيات السياسية حتى المستقلّين.

بدأت الأحداث تتسارع والتحالفات تُطبخ على نار التصريحات الإعلامية، فتأخذ أحيانا صبغة عقلانية فيها تفكير في مصلحة الوطن والمصير المشترك، وتنزع أحيانا أخرى إلى العاطفة والمزاج بطريقة تكون أكثر حدّة ممّا رأيناه في الحملة الانتخابية. أول المنعرجات المهمة في المشهد هي انتخاب راشد الغنوشي رئيسا للبرلمان من الدور الأول بما يمثّله من ثقل سياسي وطنيا وإقليميا ودوليا؛ ممّا أثار حفيظة بعض الأحزاب والنواب المنتمين للنظام القديم من جهة وبعض العناصر من اليسار التونسي، الذي تراجع انتخابيا بشكل غير مسبوق.

لم تكن هذه الأحداث بمعزل عن انطلاق النقاشات حول تشكيل الحكومة، التي تمسكت فيها حركة النهضة بحقها الدستوري باختيار رئيس الحكومة على اعتبار أنها الكتلة الأولى في البرلمان، قابله تمسّك من حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب بعد فشلهم في جمع التحالفات لرئاسة البرلمان بضرورة الاحتكام إلى رئيس الدولة بما أسموه "حكومة رئيس الجمهورية".

زادت الأحداث تواترا وتسارعا بعد سقوط الحكومة الأولى في البرلمان ومرور المبادرة إلى رئيس الجمهورية، الذي اختار بدوره السيد إلياس الفخفاخ، الذي لم يكن الشخصية الأقدر في نظر الأغلبية البرلمانية، والذي اختار حكومة أقلية، فيها إقصاء لبعض المكونات في المشهد البرلماني بدعم من رئيس الجمهورية. وهذه الحكومة لم تدم طويلا إلى أن جاءت قضية تضارب المصالح وشبهات الفساد، التي حامت حول رئيس الحكومة؛ ممّا جعله عرضة لسحب الثقة من حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة وبعض النواب المستقلين.

ما زاد الأزمة تعميقا تمسّك رئيس الجمهورية ببطاقة اختيار رئيس حكومة جديد بدون أن يراعي اقتراحات الأحزاب والكتل البرلمانية، كردة فعل على إسقاط حكومة إلياس الفخفاخ عبر تعيين هشام المشّيشي رئيسا جديدا للحكومة، والذي عبّر بدوره منذ البداية وباتفاق مع رئيس الجمهورية على تكوين حكومة كفاءات مستقلّة. بعد شهر كامل من المفاوضات بدأت تبرز أولى ملامح الاختلاف بين ساكن قرطاج وساكن القصبة الجديد، الذي تعرّض إلى هرسلة منقطعة النظير من ديوان رئيس الجمهورية عبر ما فرض عليه من أسماء وزراء في حقائب حيوية؛ ممّا جعله يفكر في الاعتذار وتسليم الأمانة، غير أنه وجد دعما من الحزام البرلماني، الذي وافق على تمرير الحكومة مع شرط العمل على تحسينها باتجاه حكومة وحدة وطنية غير خاضعة للابتزاز والأسماء المسقطة.

يمكن أن نقول إن هذا المنعرج في العلاقة بين رئيس الحكومة، هشام المشيشي، ورئيس الجمهورية، قيس سعيّد، أخذ نسقا تصاعديا غلب عليه التوتّر وقلّة الثقة، إلى أن قرر رئيس الحكومة القيام بتغيير حكومي في انسجام مع الحزام البرلماني الداعم للحكومة، عبر إقالة الوزراء المسقطين من رئيس الجمهورية؛ مما يمكننا من القول إن شعرة معاوية قد قطعت نهائيا بين الرجلين، خاصة بعد خروج السيد قيس سعيّد إلى العلن وتعبيره عن رفضه للتحوير الوزاري الجديد، غير أن البرلمان قال كلمته بصفته سلطة أصيلة من خلال المصادقة على كل الأسماء المقترحة بأغلبية مريحة تحمل وراءها رسائل ودلالات، وتفتح الآفاق لطرح أسئلة ملحة حول طبيعة الخلافات المستقبلية بين مؤسسات الدولة.

عطفا على كلّ هذه السياقات، علينا أن نستشرف أي مستقبل للعلاقة بين مؤسسات الدولة، لا سيما بين رئيس الجمهورية من جهة ورئيسي البرلمان والحكومة من جهة أخرى، خاصة في ظلّ هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي ومضاعفات جائحة كورونا على الاقتصاد التونسي. غير أننا يجب أن نتوقف أولا ونبدي مجموعة من الملاحظات حول سلوك رئيس الجمهورية، الذي لا يمكن التكهن بتصرفاته، لا سيما بعد تصريحاته الأخيرة، التي تحمل إيحاءات خطيرة أحيانا، وغريبة أحيانا أخرى، من قبيل قوله في مجلس الأمن القومي إن أطرافا من الداخل تتآمر مع الخارج ضد مصلحة تونس، إضافة إلى انحيازه الواضح إلى الكتلة الديمقراطية المعارضة في البرلمان؛ ممّا جعل بعض المحللين يطلقون عليها تسمية "كتلة رئيس الجمهورية"، والتي فشلت خلال صيف 2020 في مشروع سحب الثقة من رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، الذي استطاع تكوين حزام برلماني صلب أظهرته النتائج الأخيرة للتحوير الوزاري. إضافة إلى ذلك، يعتبر البعض أن رئيس الجمهورية أصبح جزءا من المشكلة، ولم يعد جامعا لكلّ التونسيين والتونسيات بعد انخراطه في معارك حزبية ضيقة، بدل الترفع والتحلي بالحكمة والرصانة في مواجهة الأزمات الكبرى، علاوة على انخراط الأحزاب الداعمة للرئيس في الخطابات الداعية لحل البرلمان وإسقاط النظام والانقلاب على الدستور، خاصة بعد مقطع الفيديو الشهير الذي نشر في صفحة رئاسة الجمهورية، ويتضمن دعوة لحلّ الأحزاب والبرلمان والذهاب نحو المجهول .

في هذا السياق، يمكن القول إن مؤسسات الدولة قد تشهد، مستقبلا، مزيدا من الاضطرابات، إذا لم يقبل رئيس الجمهورية بهذا التحوير الوزاري، ويعلن بالتالي عدم قبوله بالبرلمان كسلطة أصلية في البلاد؛ مما يفتح الباب لسيناريوهات أكثر تعقيدا يرى البعض أنها تصب في مصلحة الشعبويين والعبثيين، الذين يطمحون إلى إجهاض التجربة الديمقراطية.

هل انطلقت المعركة؟

يأتي هذا السؤال إجابة على نتائج التحوير الوزاري الأخير الذي يعتبره البعض سبيلا جديدا لتنفيذ الإصلاحات، ورسالة متجددة تبرز قوة الدولة ورسوخ الديمقراطية فيها، من خلال فتح معركة حقيقية مع الفقر والبطالة والتهميش وتقديم الأجوبة الحقيقية للشباب المحتج، وتوجيه كل إمكانيات الدولة للتسريع في توفير اللقاح بأقرب الآجال لحماية الشعب من الخطر المتزايد للجائحة. في حين يرى البعض الآخر أن هذا التغيير الحكومي فتح الباب على مصراعيه لجولة جديدة من النزاعات القانونية والتأويلات الدستورية، خاصة إذا واصل رئيس الجمهورية رفضه لهذا التحوير؛ مما سيساهم في إعادة إنتاج الأزمة، ومزيد من تضييع الوقت على التونسيين، الذين ينتظرون حلولا تمس حياتهم اليومية، لا حلبة جديدة من الصراع السياسي الفئوي، الذي لا غاية له سوى إرباك المشهد وتعميق الأزمة؛ ممّا سيدفع الحزام البرلماني إلى محاولة إيجاد الحلول الممكنة لإيقاف عملية احتكار تأويل الدستور من رئيس الجمهورية، من خلال تسريع انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية كجهة تحكيمية يمكنها تعديل الكفّة وحماية النظام الديمقراطي. في هذا الإطار لا بد أن يتحمل الجميع مسؤوليتهم في اختيار المعركة الحقيقية ومجابهة المشاكل العاجلة قبل فوات الأوان.

أخيرا، ورغم تباين وجهات النظر والخلافات الطافية على السطح يجدر بنا البحث عن نقطة ارتكاز يمكن البناء عليها؛ لتجاوز التصدعات الحاصلة بين مؤسسات الدولة، والتأسيس لبروتوكلات تعامل جديدة تنبني على احترام الدستور والقانون، والقطع مع تنازع الصلاحيات والجلوس على طاولة النقاش، ولعلّ الحوار الاقتصادي والاجتماعي المرتقب، الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل يمكن أن يكون نقطة انطلاق جديدة لإيجاد أرضية توافق على قاعدة مصالح الشعب التونسي، وتفويت الفرصة على كلّ الخطابات الإقصائية والفاشية، المتربصة بالتجربة، والتي تنمو في ظل الخلافات والصراعات السياسية. نقطة انطلاق يجب أن تنبني على قاعدة الوضوح في البرامج والرؤى الاقتصادية، ترافقها هدنة اجتماعية تسمح للحكومة بأن تباشر الإصلاحات بكل ثقة ومسؤولية، وبدعم من جميع الأطراف المؤمنة بريادة تونس وقدرتها على أن تكون قصة نجاح سياسيا واقتصاديا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.