شعار قسم مدونات

تركنا الرصافي بدون أزرار.. عشوائيات العراق

2- إسرائيل اعترفت مؤخرا بأن القصف العراقي أوقع 14 قتيلا

 

على رصيف بغداد، في تلك المدينة المنسية، التي تحتوي على مقابر للكتب، لو كان كارلوس زافون هنا لحولها إلى روايات بدلا من مداخل إسبانيا، ندخل إلى شارع الرشيد، الوجه المخفي أو الممحي لبغداد، ذلك المكان الذي أحبه كثيرا تحول إلى لوحة عليها الغبار والتراب المتراكم منذ عقود.

تغير شكل بغداد كفتاة تسير على خطى الموضة أو تتبع الشائع ترتدي ما لا يليقُ بها، بدأً من الأماكن و المباني التي يبنيها ساكنوها ثم تدريجيا إلى الأصوات، فالمباني تعكس البشر وتقوم على سلوكهم، فهي نابعة من الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها البلد، إذا كانت جميلة أو لا. هذا ما نراه اليوم، عشوائية كبيرة يعيشها العراقيون، تنعكس عليهم من البيوت الكبيرة الملونة بقطع عديدة، ومن أبنية ضخمة تشعرك بالضيق، ومن الأثاث المزخرف، والمبالغة في التحف، إلى أشياء تشعرك حتما بالدوار، وأنت داخل المكان لا يوجد هدوء، حتى في الشارع بعد الحروب التي عاشها العراق، وآخرها عام 2003، دخل العراق مرحلة هشة جعلته عشوائيا أو غير هادئ، وهذا ما نراه في انعطاف الأغنية والموسيقى العراقية بعد 2003، التي اعتمدت على الرقص واللبس الملون مع موسيقى صاخبة مزعجة، قادمة من حال البلد الذي كان يعيشه آنذاك، معبرا عنه بالصخب والجوع للحرية.

لم تكن بغداد المدينة الوحيدة العشوائية إنما مدن أخرى ينطبق عليها هذا الكلام، بعد الأغاني الصاخبة بدءا من البرتقالة ثم الرمانة، ثم بسبس ميو، مرورا بأغان انتقالية تعبر عن الفترة والحالة الزمنية العراقية؛ إلا أنه بعد فوز المنتخب العراقي، ودخول العراق مرحلة صحوة وطنية، بدء الأداء الفني يتجه إلى الأغاني الوطنية، أما المنازل في فترة البرتقالة، فقفلت أبوابها بزناجيل للحماية، وعلت أسوارها منسجمة مع حال الضيق الذي عاشه أفرادها، بعد أن كانت البيوت بسيطة بسياج ناصٍ "واطٍ" وحديقة مزدهرة، أُفتتح العراق على مصراعيه، ودخلت سيارات عديدة منها "البطة" التي أنتجت على إثرها أغنية بذلك الاسم؛ لتحطم أسوار البيت، وتلغي حدائق كثيرة؛ لتصنع كراجا. لم تكتف العوائل بذلك، خاصة بغياب القانون، وعدم وجود من يحاسبهم، فتمادوا أكثر ليتجاوزوا الأرصفة بتعمير أبنيتهم، متسائلين من منا أكبر منزلا وأطول؟.

السلطة القوية والحزبية ساهمت برفع الغرور أكثر؛ لتبني وتشوه مبان كثيرة، متناسية أن الثقافة وجه بغداد الحضاري، تلطخت بغداد بـ"ميك آب" (Makeup) دسم كفتيات تلك المرحلة، التي تعبر عن نفسها بألوان براقة غير مريحة للعين نسبيا، وهذا ما اعتمدته بعض الأبنية فمنها البنفسجي والبرتقالي والوردي "الزهري"؛ لتنتج لنا صيحة موضة أخرى هي صبغ المدارس والبيوت العامة بنصف ونصف؛ أي بما يسمى "حزام" يكون نصفه يلمع والآخر باللون نفسه (مطفي).

تشكيلة الألوان المزعجة مستمرة، فبعد أن فقدنا الإشارة، وأصبحنا عشوائيين في الطرق لا نحترم الآخر، كأننا في سباق دائم مع الحياة. علينا أن نحافظ على هوية بغداد باختيار أبنية جميلة خالية من المبالغة، فالمدن والأبنية ذاكرة المرء، ماذا ستكون ذاكرتنا بعد رحيلنا؟، ماذا ستكون ذاكرة بغداد؟ نحن صحونا على ذكريات وبقايا من التراث وشارع الرشيد والأبنية الهادئة، ماذا سنترك أبنية ملونة أم سياجا عاليا؟.

هناك بصيص أمل، ففي آخر 3 سنوات لاقت الأغاني القديمة رواجا وإحياء في الأغنية التراثية، وازداد عدد مستمعيها ومروجيها، وهذا مؤشر جيد ربما سينعكس على المباني في الفترة القادمة، وربما سينعكس علينا، فالنساء تشبه المدن، وبغداد بالنسبة لي ليست مجرد مدينة، إنها كائن حي للمسامرة وتبادل الأسرار، إذا أردت أن تعرف حال البلد فشاهد نساءها، المدن تشكلنا، وتركب هيئتنا، وينعكس أحدنا على الآخر، ونحن أجسام مشتركة عندما يتهشم بناء معين، يتهشم جزء منا، من ذاكرتنا، وربما من شخصيتنا، وهذا ما سينعكس على الصوت والفن والحياة، كالتأثير الذي حدث بعد الهجرة الزراعية إلى المدن، حيث تغيرت فيها المباني، ثم انعكست على الأغنية العراقية؛ لينشر الغناء الريفي، وهذا ما حدث مع العراق منذ 2003 إلى الآن بعشوائية دائرية، شيء يأخذ من شيء.

الدور الأخير يعتمد علينا، على العراقيين الفنانين، عقموا عيون بغداد، فلا تجعلونا كرواية العمى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.