شعار قسم مدونات

معضلة تدريس العلوم السياسية وتسليح "الانفلونسر"

 

نواجه بصفتنا أساتذة متغيرات خطيرة تكاد تنسف بفهمنا للعلوم السياسية وتدريسها، فلم تعد الشرعية هي الشرعية، ولم يعد النفوذ هو النفوذ، ولا الجماعات الضاغطة هي نفسها، ولا الرأي العام هو عينه الذي اعتدنا تدريس كيفية تشكله وتشكيله.

على الدوام كان هناك موضوعان متكررين في تدريس العلوم السياسة أولهما: مسألة التغيير، من يصنعه ومن يحركه، وثانيهما: الصراع الذي يعد توأما للسياسة مرافق لها منذ الأزل، وإلا ماسميت ب"فن الممكن" لأنها معنية بالتنافس وتوزيع النفوذ وتقاسم المناصب وإدارة الموارد التي تعاني شحاً في معظم الوحدات السياسية في العالم.

ماذا يعني مصطلح "الرأي العام" في لحظة "الأنفلونسر" التاريخية؟ وعلى ذات المنوال من هو الشيخ ومن هو المريد في المعرفة؟

بدايةً من اللغة وصولا إلى الفكر لقد قلبت هذه الموجة تقاليد العلم رأسا على عقب، وقلبت أيضا معادلة "المعرفة هي القوة" وفق ما طرحه ميشيل فوكو، فالمعرفة وأهلها صاروا أسرى في دائرة النفوذ وصناعه.

نرجع إلى قصة الرأي العام، كيف يتشكل وكيف يقاس، وكيف يؤثر على صناعة القرار والعملية السياسة بالمجمل؟ فالجمهور الذي يصل تعداده إلى مئات الآلاف أو ملايين الأشخاص كان هو المؤثر، وكان الساسة الحاذقون على غرار تشرتشل وروزفلت يطأطئون الرأس لسلطة الرأي العام تفاعلا وتجاوبا ورضوخا.

في لحظة "الأنفلونسر" جرت عملية احتلال وتوظيف، لقد استولت جيوش "الأنفلونسر" على دور الجماهير التي تشكل الرأي العام، بل صاروا قادرين على توظيف هذه الجماهير، وصار الساسة يطأطئون الرؤوس ل"الإنفلونسرز"، لكن أيضا على أن لا نسلم بقوة "الإنفلونسر" فهو أيضا يتم احتلاله وتوظيفه وتجنيده (weaponization).

يبدو أستاذ العلوم السياسية اليوم في العالم الذي تحكمه الديمقراطية أو ذلك الذي يحكمه الاستبداد، مضطرا إلى ركوب الموجة والتجاوب مع هذا الفاعل الجديد، الذي بات حاضرا في صلب العملية السياسية، ولا يمكن تجاهله، خاصة وأن هذا الفاعل الجديد هو في الواقع جندي افتراضي وقائد معارك تشارك فيها دول وتديرها أجهزة أمنية، وتخصص لها ميزانيات كبيرة وتأخذ لون الأيدلوجيا السياسية.

وهذا "الإنفلونسر" هو حالة شعبوية متجسدة، ويكفي أن يختلف مع غيره في الرأي حقا أو باطلا، نيابة عن نفسه أو عن دولة ترعاه وتموله حتى يطلق جيوش "الفلوورز"(followers) ضد خصمه، فيهاجمون بعضهم على الطريقة الميكافيلية دون حياد أو أخلاق.

لقد دخل "الزيف" الى حقل العلوم السياسية بصورة لا يمكن تجاوزها وقد فصلت في كتابي الأخير(The Routledge Handbook of Middle East Politics, 2020) في بحث فكرة (simulacra) للمفكر والفيلسوف الفرنسي الرّاحل جان بودريار. Baudrillard جوهر هذه الفكرة ضمن منهجيته التفكيكية للحداثة هو أن الأصل يزول ويتلاشى ويحلّ محلّه الظل أو الطيف في تمثيل زائف ومستنسخ للأصل. وهذه سمة الحداثة التي لم تقف عند حدود البضاعة بل طالت الفكر والفكرة والمفكر.

ظاهرة الأخبار الزائفة "(fake news) التي رافقت رئاسة دونالد ترامب تجسّد الانتحال والتحوير للحقيقة. هل صدمة اقتحام مبنى الكونجريس الأمريكي فعلا "صدمة" أتت من فراغ  يا ترى؟ ام هي مرتبطة بنشر وانتشار الأخبار الزائفة من قبل أفراد ومجموعات داعمة للرئيس السابق ترامب مثل QAnon ؟

الورشة الفلسفية التفكيكية لبودريار تتعدّي استنساخ النماذج الأصلية عبر عملية "الإنتاج الكثيف" (mass production) في مرحلة الحداثة بطابعها الرأسمالي الى الاعلام الجديد لما ينتجه من تأويل وتزييف وتحوير واستنساخ كما هو شأن "التغريدة" لدى المؤثرين والمغردين.

وكأننا دخلنا في مرحلة ما بعد المعرفة بل ربما "الاّمعرفة" – تناغما مع "الّاحداثة" لدى بودريار صاحب احدى أروع المقالات على حرب الخليج الأولى بأنها "لم تحصل" لأن "الحقيقة" فيها زيفا وانتحالا وخيالا من صنع الشاشة. هذا يحيلنا اليوم الى الجدلية المتواصلة بين "الواقع" (ان وٌجد وان أمكن تعريفه وتحديده) و"الخيال" او اللاّواقع.

بات تدريس تأثيرات هذه الظاهرة وموقعها في حقل العلوم السياسية حاجة تقتضي دخول ساحة التنظير، والتأليف بصورة تفضي إلى مؤلفات تعين على إعادة تشكيل مضامين وفهم العلوم السياسية لدى دارسيها ومدرسيها. من الزاوية الابستيمولوجية البحتة لحظة "الانفولونسر" تقتضي معالجة ليس فقط من زاوية مجال العلوم السياسية, بل والعلوم الاجتماعية عامة .. نحن اذا أمام لحظة مرتبطة بأنطولوجيا فيها تحدّي جديد: "كيف تتشكّل السياسة" اليوم؟ وربمّا كيف يصنع الاعلام الجديد الفاعل السياسي؟ وكيف هذا الفاعل بدوره يصنع الفاعلين السياسيين "الجدد"؟ الإجابة لا توجد في نصوص برتراند بادي ولا ديفيد ايستون ولا جبرائيل ألموند..

 

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.