شعار قسم مدونات

سنغالي على أطراف الأمازون

 

نبرع كثيرًا في تنميط الناس وتصنيفهم، بطريقة تلقائية أحيانا كثيرة، يحدث ذلك ربما لأنه يُشبع لدينا شغف المعرفة المزيفة، ويرسم لدينا ملامح صريحة الوضوح لكل مختلف أو مغاير. ولا أدل على ذلك من نظرة على الخريطة لتكتشف أن كل الناس -كلهم- لم يسلم من تلك الآفة.

قبل سنوات، قابلتُ داعية سنغاليا شابا، جاء إلى أطراف أمريكا اللاتينية يدعو القبائل ضمن أحد وفود التبليغ، حكى لي حكاية غيّرت لي قناعة كانت راسخة عندي لسنوات، وصحح في خاطري بديهية لم أكن لأفطن إليها لولا لقائه الجميل.

لم يكن الشاب يتحدث من العربية شيئا، لكنه كان يعرف عن الإسلام أكثر مما يعرفه كثير من مسلمي الشرق، لا يعرف الإنجليزية أيضًا، يتحدث إسبانية ملوثة بالفرنسية الأم.

سألته: متى دخلتَ الإسلام؟

قال: لم أدخله، أنا مسلم بالميلاد..

سألته: هل يوجد كثير من المسلمين في السنغال؟

رد متعجبا: السنغال كلها مسلمون، السنغال بلد مسلم كله!

سألته: كيف صمد الإسلام في تلك الأرض رغم انتشار الفرنسية لغة وثقافة؟ وكيف تقاومون التوغل الثقافي الفرنسي؟ وكيف تتواصلون مع العالم الإسلامي وتستمدون منه التراجم والعلوم الدينية؟..

أجاب دون تفكير طويل: هذه بلاد المغرب العربي!

يقول الشاب إن في السنغال مثلا شعبيًا يقول: غبيّ كفرنسا حين احتلت الجزائر.. لماذا؟ لأن الجزائريين تعلموا الفرنسية دون أن يفقدوا العربية.. فكانوا حائط صد أمام توغل الفرنسيين على غرب أفريقيا، وصاروا الشوكة التي نغصت على الفرنسين الانفراد بالغرب الأفريقي، وحلقة الوصل الثقافي بين العرب والأفارقة في غرب القارة.

ويقول إن أغلب المثقفين وكتّاب الصحف في السنغال ومالي والنيجر وشمال نيجيريا، الذين برزوا بعد خروج المحتل، جاءوا من موريتانيا والمغرب والجزائر (والمفاجأة: تشاد، البلد الذي يتحدث العربية ولا نعرفه)، وكذلك معلمو المدارس والكتاتيب، ومعدو البرامج الدينية، والعمال الاجتماعيون، وراسمو هوية البلاد السمراء المستقلة الجديدة.

ساهم هؤلاء الوافدون العرب الناطقون بالفرنسية (ولا يزالون) في تنشئة أجيال أفاريقية مُحتفظة بهويتها وانتمائها الإسلامي، وتواصلوا بسهولة مع سكان غرب أفريقيا، وردوا الشبهات والتشويه الفرنسي، وصمدوا أمام غزوات التبشير، وأسمعوا تلك الشعوب رواية أخرى تزاحم رواية المحتل.. كيف فعلوا هذا كله؟ ببساطة، لأنهم يتحدثون الفرنسية مع العربية.

يقول أيضًا، إنه من الشائع جدا في بلاد الغرب الأفريقي أن يرسل الآباء المقتدرون أولادهم لدراسة الدين في أحد مدارس الجزائر أو موريتانيا، بعض تلك المدارس معدة خصيصا لهذا الغرض من معلمين ودعاة.. لماذا؟ ببساطة، لأن الناس هناك يتحدثون الفرنسية مع العربية.

الأفارقة في غرب القارة لا يزالون مفتونين بنضال الجزائريين وإخوانهم من المغاربيين ضد فرنسا، ويرون في لسانهم العربي ودينهم الإسلامي رمزا لكسر شوكة المحتل المشترك، وانتصارا لهوية عصيّة، خليقة بالاتباع والاقتداء .. وميثاقا غليظا يجمعهم مع شركاء عصر السيادة في زمان المرابطين.

حتى إن حركات التحرر النضالية في غرب أفريقيا، تستدعي دائمًا في مقامات الحشد والتحفيز، ممارسات المحتل في الشمال، وتاريخه الاستعماري الكئيب، وكأنها آلة زمن تكشف للأجيال الوليدة مستقبل بلادهم إذا خضعت للاحتلال ورضيت به واستكانت لمشيئته .. وأيضًا، مستقبل بلادهم لو أنها قاومته حتى آخر نفس فيها، فنالت استقلالها ولو بعد حين.

لقد هزم الجزائريون فرنسا مرتين

مرة حين أخرجوها من بلادهم صاغرين

وأخرى حين أعادوا فتح الغرب الأفريقي

وانكبوا عليه يغسلونه من أوساخ الاحتلال، ويعيدونه إلى هويته وروحه، ويحيلون كل ما أنفقه المحتل حسرة في قلبه.. ولولا الجزائر وموريتانيا لكانت غرب أفريقيا اليوم "أندلسا" جديدة.

منذ ذلك اليوم، توقفت عن غمز الجزائريين في فرنسيتهم، وعلمتُ أن الله حين جاور الفرنسية إلى العربية على ألسنتهم، إنما كان لحكمة وغاية.. وأننا دائما نرى في فرنسيتهم تبعية للشمال، ولا نرى فيها ريادتهم للجنوب وحمايتهم له وحفظهم لدينه وهويته ..

وما يعلم جنود ربك إلا هو ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.