شعار قسم مدونات

توازن القوى في العالم

علم الصين وأمريكا
علم الصين وأمريكا (الجزيرة)

الناظر إلى التاريخ يجد أن صراع الأمم كفيل بأن يوجد التحديات لكل أمة تريد أن تحتل مكانة بين الأمم، وفي القرن العشرين الميلادي بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها بعد أن تم القضاء على الرايخ الالمانى سارعت أكبر قوتين موجودتين في العالم كإمبراطوريتين كبيريتين سارعتا لتستحوذ كل منهما على نصيبه من غنائم الحرب أو بالأحرى إستعمار الأمم أو البلدان المستضعفة أو التابعة في العالم وأهم من ذلك أن تقتسما النفوذ في العالم ككل والسيطرة على العالم فسيطرت امريكا وهي الامبراطورية الرأسمالية الصناعية الغربية ذات الميراث الغربى الانجلوساكسونى فبسطت أمريكا نفوذها على غرب أوربا وعلى الأخص على ألمانيا وإيطاليا المنهزمتين وكذلك بسطت أمريكا نفوذها على اليابان المنهزمة أيضا بفعل استسلامها بعد القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكى.

 

وسيطر الاتحاد السوفيتي الدولة الشيوعية الكبرى التى تصور فقراء العالم أنها دولة جاءت لتحقق حلم طبقة العمال (البروليتاريا) في العالم ولتساعد حركات التحرر من الاستعمار. ومن هنا بدأ صراع جديد في العالم بين قوتين كبيرتين استقطبتا العالم. وفى ظني أن هذا الأمر أحدث توازنا لمدة أربعة عقود في العالم. ولكن حربا باردة اشتعلت بين القوتين من المؤكد أن امريكا والغرب استخدموا فيها انواع الحيل والدهاء للقضاء على النقيض القوى الذي يقوض فكرة سيطرة رأس المال التي أتت بها الثورة الصناعية في أوروبا ثم في أمريكا التي قادت العالم الرأسمالي في مواجهة العالم الشيوعي الذي يدعو لتأميم كل وسائل الانتاج.

 

وبالفعل بعد حرب باردة دامت أكثر من أربعة عقود انهار وتفكك الاتحاد السوفيتي وتهاوت الكتلة الشرقية الشيوعية وحلف وارسو العسكري وتوحد شطري ألمانيا وانزوت روسيا الدولة الأكبر مساحة في العالم في ارضها الشاسعة بعد انفصال العديد من الدول عنها، انزوت روسيا تلملم جراحها وتعالج اقتصادها المنهار والفساد المستشرى وظلت تبحث عن هويتها الامبراطورية التى عاشت قرون قيصرية مسيحية ارثوذكسية ثم تحولت إلى امبراطورية ملحدة شيوعية أممت كل وسائل الانتاج ولم تتردد روسيا أن تعود إلى إرثها الثقافي المسيحي الأرثوذكسي ولكن بصورة علمانية تقترب مما أرساه الغرب الحديث وتبتعد عن الإرث القيصرى.

وسط انفراد أمريكا وسلطويتها ونشوتها بالسيطرة على العالم تنامت القدرة الاقتصادية للصين التي ما لبثت أن تبنى امبراطوريتها القديمة على أسس حديثة فحققت نجاحات أبهرت العالم

لكن الملفت لنظر أي سياسي في العالم أن العالم صار له قطب اوحد واقوى زاد توحشاً وهو أمريكا التى تفردت بالسيطرة على العالم والنفوذ القوى لصالحها ولصالحها فقط أو كما عبر الرئيس الروسى بوتن واصفا أمريكا بالذئب الذي يريد أن يأكل وحده. فنجد من نتاج تفرد أمريكا وحدها بقيادة العالم دون أن يكون هناك توازن في القوى في العالم على سبيل المثال وليس الحصر:

 

·     تم سحق دولة إقليمية كالعراق وجودها كان بعطى توازناً سياسياً داخل المنطقة العربية وهذا السحق للعراق بالطبع كان لصالح دولة الكيان الصهيونى كما كان لصالح إيران الصفوية الشيعية.

·     تم فرض حالة الكيان الصهيونى وسيطرته بكل الوسائل العسكرية والناعمة حتى يكون أمراً واقعاً حتمياً وبحروب عنيفة وحرب إبادة وفصل عنصرى داخل الارضى الفلسطينية وعلى الارضى اللبنانية. والشىء الواضح جدا وبقوة أنه في فترة تفرد القوة الامريكية بقيادة العالم تمدد الكيان الصهيونى وتغلغل بقوة.

·     الحرب الشرسة على شعب افغانستان المسلم وبلا هوادة.

·     مساعدة كل الانظمة القائمة الفاسدة في البلاد المسلمة ومساندتها في قمع شعوبها والحيلولة بينها وبين أن يقام فيها نظماً تعتمد التعددية أو أن تكون مرجعيتها اسلامية.

·     القضاء وبعنف على المكاسب التي كان متصوراً أن يأتي بها الربيع العربي الذي بدأ في تونس وتدحرج إلى مصر وسرى إلى بلدان عربية أخرى.

·     وفي أمريكا اللاتينية على سبيل المثال تم القضاء على نظام ديمقراطي صاعد في البرازيل لصالح تيار أكثر ولاءً لأمريكا وادارة صراع في فنزويلا بأسلوب تأجيج الصراع وموضوع امريكا اللاتينية-الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الامريكية -معروف وواضح ومعقد وملامح السياسة في هذه البلدان هو فساد انظمتها لصالح المصالح الأمريكية فيها.

 

وسط انفراد أمريكا وسلطويتها ونشوتها بالسيطرة على العالم تنامت القدرة الاقتصادية للصين التي ما لبثت أن تبنى امبراطوريتها القديمة على أسس حديثة فحققت نجاحات أبهرت العالم. وبدأ الهاجس الأمريكي حيال الصين يزداد مع النمو الاقتصادي الصينى المبهر وغزوها لأسواق العالم وإزداد القلق مع تنامى فكرة الحزام وطريق الحرير التي تبنتها الصين منذ سنوات واستثمرت فيها بقوة وضحت للعالم أن الصين يمكن أن تكون أنفع لدول كثيرة في العالم من الغرب وأمريكا الذين يبتزون العالم وينهبون الثروات ولا يصدرون لدول العالم النامي إلا ما يؤدي إلى تخلف هذه الدول.

العالم كله يحتاج إلى توازن القوى. لكن السؤال هل العالم مع صعود الصين بقوة في طريقه إلى هذا التوازن؟ أم أن اختلال التوازن الموجود في العالم والذي أدى إلى تفرد أمريكا بقيادة العالم

تسللت الصين لعالم القوة لتحدث التوازن المطلوب في العالم وهذا بالطبع تعتبره امريكا أنه دفع لخلل في التوازن وذلك الاختلاف في وجهة النظر للأمور طبيعي وهو جوهر الصراع الذي يعانيه العالم اليوم وهو في اتجاهه للحسم أو على الأقل لتطور الصراع بين الامبراطوريتين لأن العالم فيه قوى اخرى صاعدة مثل روسيا التي هي في كثير من الأمور حليفة الصين والاتحاد الاوروبى المتذبذب والمتردد والمليء بالمشاكل والتصدعات الداخلية والهند الحليف بقوة لأمريكا بالطبع لمواجهة الصين التى من حلفائها باكستان المسلمة عدوة الهند وبالطبع لا يخفى تقارب الصين من ايران البترولية والاستقطابات في العالم أعمق وأبعد من ذلك بكثير لكن الامر الذي يهمنا هو ان صعود الصين كقوة في العالم هو اتجاه نحو توازن مفتقد بتربع امريكا على قيادة العالم وحدها وتفردها بذلك بصورة أدت إلى مزيد من البؤس والفقر وتدمير لاقتصادات دول تحاول النمو وافقار دول ونهب ثروات كثيرة في العالم لصالح الرأسمالية الأمريكية الجشعة والشركات الكبرى المتعدية الدول والقارات.

 

لكن السؤال المهم وقد أصبح الصراع بين الصين وامريكا أكثر وضوحا وأصبحت أمريكا علناً ومنذ بداية عهد ترامب تصرح بالحرب على الصين وعقوبات على الصين وعلى شركات صينية وما شابه ولكن متى ستتأجج الحرب بينهما بصورة أكبر ولاشك أن القوتين ذاهبتين إلى ذلك لا محالة لكن الصين لا تصرح في هذا المجال كثيراً ولكن الأهم هل الحرب ستتعدى الحرب الاقتصادية والتجارية إلى عمل عسكري؟

 

المهم أنه في كل عدوان أمريكي مثل العدوان على العراق وافغانستان مثلاً كانت أمريكا توفر لنفسها الغطاء الدولي لتنفيذ عدوانها لكن في حالة الصين لن تستطيع أمريكا أن توفر غطاءً دولياً لاى عمل عسكرى ضد الصين وكذلك لن تستطيع أن تفرض اى عقوبات اقتصادية دولية فضلاً عن أن تجد الذريعة. ولكن تبقى العقوبات الاقتصادية الأمريكية وأوراق أخرى ليست بالقوة ستستخدمها أمريكا تجاه الصين لوقف صعودها. واضح أنه ربما كان الذي يدور في عقل صناع السياسة في أمريكا اشعال حرب مع الصين في أي بقعة من العالم لكن صناع السياسة في الصين أكثر براعة في البعد عن الصراع ونزع فتيله. الصين الأكثر سكاناً في العالم علمتها حكمة السنين الطويلة لتاريخها القديم أن تستمر في الصعود محاولة تجنب المشاكل والتحرش ممن يحاول افتراسها وقد طوت صفحات من التخلف والجهل وحرب على الافيون وشيوعية ماوية استبدلتها باشتراكية وشراكات اقتصادية داخلية وخارجية وانفتاح برجماتى على العالم ومفهوم آخر للرأسمالية المتعايشة مع الاشتراكية.

 

العالم كله يحتاج إلى توازن القوى. لكن السؤال هل العالم مع صعود الصين بقوة في طريقه إلى هذا التوازن؟ أم أن اختلال التوازن الموجود في العالم والذي أدى إلى تفرد أمريكا بقيادة العالم، والذي أدى إلى المزيد من المصائب والكوارث وعلى الأخص لأمتنا الإسلامية سيظل طويلا؟ الزمن كفيل بالإجابة على السؤالين السابقين ولكن الذي أستطيع أن أؤكده أن الإجابة الفعلية لن تكون بكلمات ولكن بواقع يتولد إما أن يكون أسوأ بكثير مما نعيش وإما أن تحدث انفراجة للدنيا بتحقيق واقع أفضل، فمن المؤكد أن استمرار قيادة امريكا للعالم لن يأتى لأمتنا بخير، لكن صعود أى قوة بما يحقق التوازن في العالم لا شك أنه وضع أفضل لكل الدنيا بغض النظر عن تصورات كل من القوتين العظميين ومساوئ ومحاسن ومطامع ومطامح أي منهما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.