شعار قسم مدونات

هل يحسمُ الباحثون الروس سباق اللقاح المنشود؟

صور العاملين بمركز غاماليا الوطني على تطوير اللقاح الروسي لفيروس كورونا المستجد "سبوتنيك في" Sputnik-V,، المصدر : مركز غاماليا الوطني لأبحاث علوم الأوبئة والأحياء الدقيقة والصندوق الروسي للاستثمار المباشر، من الموقع الرسمي للقاح

فلاديمير بوتين… ثعلبٌ ماكر. علّمتهُ الأيامُ ما لا يَكفي الدهرُ كلُّهُ لتعليمِ ترمب، وجونسون، وبولسونارو، وغيرهم. بوتين… يعرفُ من أين تُؤكلُ الكتف. وهو في ذلك حاذقٌ ماهر. لا يُهدرُ وقتاً، ولا يأبهُ بما يقولُ منتقدوه. فلاعبُ الجودو المحنّك والضابطُ السابقُ في الإستخباراتِ السوفيتيّةِ كي جي بي يدركُ أنّ البقاءَ، والوصولَ، والنجاح مرهونٌ بحدّةِ التركيزِ وسرعةِ الإنقضاض. لكنّ حسمَ التنافسِ يتطلّبُ أمراً إضافيّاً: ضبطَ إيقاعِ التصعيدِ بما يُهيّئُ لتسديدِ الضربةِ القاضية. بوتين يعرفُ ذلك أيضاً ويُقدّرُه.

 

غيرَ أنّ العالمَ اليوم يرى الرئيسَ الروسيَّ يطلقُ العنانَ لمواهبَ أخرى. وهو في ذاك قاب قوسين أو أدنى من دخول التاريخ، أو بالأحرى استعادته "بتدوير" جرعات "سبوتنيك" (Sputnik-V) حول الكوكب الموبوء. ذلك أنّ إعلانه في الحادي عشر من أغسطس/آب الماضي روسيا أولَ دولةٍ تصلُ للقاحٍ ضدّ فيروس كورونا المسبب لمرض كوفيد-19 ضربةٌ قاضيةٌ على أكثر من صعيد. فبعد أقل من شهرٍ على ذلك الإعلان نشرت مجلة لانسيت الطبية (The Lancet Medical Journal) اليوم (4/9/2020) دراسةً تكشف تفاصيلَ ونتائج التجاربِ السريرية للمرحلتين الأولى والثانية لاختبار فاعلية وأمان اللقاح الروسي سبوتنيك. وبهذا النشر يجيبُ الباحثون الروس على التساؤلات التى وُجهت إليهم بشأن حقيقة بحوثهم المتعلقة باللقاح، ويضعوا أنفسهم في مصافّ من يطرح الأسئلةَ حول "بعض اللقاحات الغربية" كما صرح بذلك كيريل دميترييف (Kirill Dmitriev)، مدير صندوق الاستثمار الروسي الممول الرئيس لمشروع اللقاح، لوكالة الأخبار العالمية رويترز (Reuters).

 

فيما يلي سأعرضُ لجوانب من ملامح شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قلّما يتداولها الإعلام، مسلطا الضوء على ما قد يحمل ذلك من مغزى لمستقبل اللقاح المزمع تسويقه قريباً.

اللقاح الروسي لفيروس كورونا المستجد "سبوتنيك في" Sputnik-V,، المصدر : مركز غاماليا الوطني لأبحاث علوم الأوبئة والأحياء الدقيقة والصندوق الروسي للاستثمار المباشر، من الموقع الرسمي للقاح

1. بوتين ليسَ شعبويّاً أخرَقاً

هناك علاقةٌ خاصةٌ بين القادةِ الشعبويين ووسائلِ الإعلام. فهم مولعون برؤيةِ أخبارهم تتصدّر المنصات الرقمية وشاشاتِ الفضائيات. وهم الأكثر حضوراً وقتَ الجوائح، والأكثف ظهوراً عند الكوارث. غرضهم ترسيخ صورتهم في اللاوعي الجمعيّ كمُخلِّصين مِسيانيّين. دونالد ترمب، بوريس جونسون، وجئير بولسونارو نماذجُ حيةٌ لهكذا شخصيات. ومع أن الإعلام الغربي لم يألُ جهدا في محاولة إقحام صورةِ فلاديمير بوتين في إطار مماثل، غير أنه لا يبدو نوعيا كهؤلاء. فطريقته في التعامل مع جائحة كورونا تكشف شخصية ذات سلوك مختلفٍ عن التصرف النمطي للعقلية الشعبوية.

 

بوتين لا يبدو أخرقاً كالسادة السابقِ ذكرهم. حديثه، وإن كان مستفزاً حيناً، متّزنٌ أغلب الأحيان. وهو في مشابهته الشكليةِ للشعبويين في سعيهم الدائم لتصدير صورهم للإعلام، يختلفُ عنهم جوهريا من حيث الدافع والهدف. فالصورةُ عنده أداةٌ يبعث من خلالها برسائل تتجاوز حدود النظر لتنطبع مباشرةً في الوجدان. هل يمكنُ نسيانُ صورته في أغسطس/آب من عام 2011 مع ديمتري ميدفيديف، وكان حينها قد أتى به رئيساً لروسيا على مبدأ "الُمحلِّل"؟ في هذه الصورة يظهر الرجلان كصديقين يصطادان السمك. ميدفيدف في مقدمة المشهد ينظر كَغِرٍّ ساذجٍ إلى الكاميرا متباهياً بسمكة التقطتها صنارته، في حين يقف بوتين في الخلفية رزيناً جادّا ممسكاً بصنارةٍ لا تزال في الماء وهو ينظر إلى المدى غيرَ عابئٍ بالكاميرا. الرسالةُ هنا صارخةُ الوضوح: ميدفيدف وإن كان رئيساً لروسيا، فإن من يمسك بزمام الأمر فعليّا هو بوتين، وأنّ الرزانة والهدوء والنظرةَ بعيدةَ المدى كما تشعّ من شخص بوتين، إنّما لتبّث الطمأنينة في نفوس المواطنين إلى أنّهم في أيدٍ أمينة.

2. بوتين يعي قيمة المصداقية الشخصية

توظيف الصورة بما تحوي من إيحاءاتٍ تكرّر مراراً خلال أزمةِ كورونا. فحين أعلنت الصين رسميا عن إنتشار وباءٍ جديد على أراضيها (لم يكن أطلِق عليه بعدُ اسم كوفيد-(19، سارع الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى تكثيف ظهوره الإعلامي للحديث حول هذا الموضوع. فحوى رسائله كان تحميلَ الصين مسؤولية الجائحة إلى جانب الإستهزاء بإمكانية وصول الفيروس إلى الأراضي الأميركية. لكنّ اللافت في مسلكه اليومي كان إصراره على الظهور بدون كمامة برغم ما عزّزته دراساتٌ علمية عن أهمية ارتدائها. وبنفس صورةِ الاستخفاف قدّم جئير بولسونارو، الرئيس البرازيليّ، لوسائل الإعلام تصوّره عن طريقة التعامل مع أزمة كورونا. فما انكفأ يردّد ما روّج له ترمب بأنّ دواء هيدروكسيكلوروكين (Hydroxychloroquine) الخاصَّ بعلاج الملاريا ينفع أيضاً لكوفيد-19، مقلّلاً بذلك من أهميةِ الإجراءات الاحترازية على المستوى الشخصي كارتداء الكمامة والتباعد الاجتماعي. النتيجة؟ لحقه الفيروس وأصابته العدوى.

 

وإذ أفقد الاستخفاف الزعيمين الأميركي والبرازيلي هيبة الثبات على الموقف، بما ترتّب عليه من خدشٍ لصورتهما في اللاوعي الجمعيّ (حيث اضطّر كلّ منهما إلى ارتداء الكمامة، إما لدواعٍ إعلاميةٍ كما في حالة ترمب، أو بقرارٍ قضائي كما جرى مع بولسونارو)، فإنّ استهتار رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، كاد يفقده حياته بالكلّية. فهو الآخر انطلق (بادئ ذي بدء) يعبّر لوسائل الإعلام عن تلاحمه مع الناس في هذه الجائحة على نحو بلغ معه التصريح بأنه ما زالَ يصافحُ مواطنيه يوميّاً (انتشرت له فيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي وهو يقوم بذلك)، متجاهلاً خطورة هذا السلوك على نفسه وعلى الصحة العامة. لكنّه ما لبث بعدها أن أعلن إصابته بالفيروس ليقضي على إثر ذلك بضعة أيام في مستشفى (‘St. Thomas) اللندنيّ يتأمّلُ خلالها ما ضاعَ من خيوطِ إدارةِ الأزمةِ بتأثير الإخفاق الناجم عن تبنّي سياسة "مناعة القطيع" ومغامرته الشخصية. على أنّ شعوب السادة الثلاثة كانت الأكثر تضررا بالمقارنةِ مع محيطها الجغرافي أو حتى في العالم.

صور العاملين بمركز غاماليا الوطني على تطوير اللقاح الروسي لفيروس كورونا المستجد "سبوتنيك في" Sputnik-V,، المصدر : مركز غاماليا الوطني لأبحاث علوم الأوبئة والأحياء الدقيقة والصندوق الروسي للاستثمار المباشر، من الموقع الرسمي للقاح

بوتين، بالمقابل، سلك مسلكاً آخر. فهو أيضاً يؤمن أن القائد الحق يلتحم بمواطنيه ويظهر تعاطفه (Empathy) لمصابهم. لكنّ ذلك ينبغي أن يكون في إطار الدعم الموضوعي لمصداقيته. فمصداقية القائد هي الرابطُ الضامنُ لشعور تابعيه بالأمان. فإن اهتزت المصداقيةُ، ضاع الأمان واختلت الثقةُ بينه وبينهم. الاستهتار والاستخفاف يهزان المصداقية. وهما قطعاً ليسا من الخصائص القياديّة (Leadership Quality). أن يستهترَ القائد ويستخف بخطورة واقع الحال، فيُصابَ في جائحةٍ لا دواء لها بعد، يصرفُ الناس عن الاطمئنان إلى قياديّته. وعليه، قام الرئيس بوتين في أول تعاطٍ إعلاميّ له مع كورونا ببث زيارته لمستشفى كوموناركا (Kommunarka)، وهو المستشفى المعنيّ بمعالجةِ مرضى كورونا في العاصمة موسكو. الزيارة كانت في الرابع والعشرين من مارس/آذار الماضي. وسائلُ الإعلامِ الروسيةِ شاركت نظيراتها العالمية صورَ وفيديوهاتِ تلك الزيارة. اللافتُ في هذه الصور مستوى الاحتياطات الشخصية التي حرص بوتين على اتخاذها وهو يرتدي ما ينبغي ارتداءه من بزة واقية بدا فيها كرائد فضاءٍ، وقفازات وقناع واقٍ، الخ. الكاميرا استغرقت بضع دقائق في تصوير مشاهد الاستعداد (ما يسمح بطبع الصورة مباشرة في الوجدان).

 

هنا أيضاً رسالةُ لا ينبغي إغفالها: بوتين لا يخشى على نفسه من الذهاب إلى معقل الفيروس إذا كان الأمر متعلقاً بصحة مواطنيه. لكنه، بخلاف غيره من القادة الأغرار، واعٍ حصيف، لا يستخف ولا يستهتر، بل يتخذ ما يستلزم الموقف من إجراءات احترازية. وهو عبّر عن ذلك صراحةً حين قال في اليوم التالي للزيارة: "ينبغي أن يؤخذ الأمر على محمل الجد، فالكلّ معرض للإصابة وقد يحدث ذلك لي أنا" (The Mosco Times, 27/03/2020).

3. بوتين يُمهد لتسديد الضربةِ القاضية

في خضمّ الترقب العالميّ لنتائج المرحلة الثالثة من التجارب السريرية لموديرنا (Moderna) الأميركية، وابتهاجاً بما أحرزته أسترازينيكا (AstraZeneca) البريطانية-السويدية بالتعاون مع جامعة أوكسفورد، ومثلها الألمانية بايوإنتك (BioNtech)، أطلّ السيد بوتين في الحادي عشر من أغسطس/آب الجاري ليعلن أنّ مركز جاماليا الوطني لبحوث الأوبئة والأحياء المجهرية في موسكو (Gamaleya Natioanl Research Center for Epidemiology and Microbiolgoy) طوّر لقاحاً يوفّر مناعةً مستقرةً ضدّ فيروس كورونا المستجد وتم تسجيله كأول لقاح لمرض كوفيد-19. وبهذا انطلق وابل من التفاعلات وردود الفعل شاركت فيها شخصيات علمية وازنة وأخرى ممن رأوا أنفسهم معنيين بالتعليق على الخبر. أغلب المتفاعلين شكّكوا في إمكانية أن يكون اللقاح الروسي فعالاّ وآمناً وهما شرطان يُتحقق من توافرهما بعد استكمال المرحلة الثالثة من التجارب السريرية والتي يخضع فيها اللقاح للاختبار على عشرات الألوف من المتطوعين البشر.

 

فاللقاح الروسي، والذي يحمل إسم سبوتنيك، تيمناً بأول قمر إصطناعي في العالم أطلقه السوفييت عام 1957، لم يدخل بعد المرحلة الثالثة من التجارب السريرية لحظة الإعلان عن حصوله على الموافقة على الإنتاج والتسويق. غير أنّ نشر نتائج التجارب السريرية في المرحلتين الأولى والثانية في دورية طبية محكمة (Peer-reviewed) كمجلة لانست الطبية البريطانية يشرف على مراجعة منشوراتها البحثية علماء مختصون في الشؤون الطبية يعزز من مصداقية النتائج الروسية فيما مضى من الاختبارات ويضع اللقاح المطوّر في روسيا على قائمة اللقاحات الواعدة ضد فيروس كورونا فيما يُستقبلُ من نتائج المرحلة الأخيرة من التجارب السريرية. حريّ بالذكر أنّ الدراسة وثقت أن كل من خضعوا للحقن بلقاح سبوتنيك استجابوا له بإنتاج أجسام مضادةٍ لفيروس كورونا دون أن تظهر عليهم أعراض جانبية طوال فترة الدراسة الممتدة لستة أسابيع ما يدعم واقعاً ما ورد على لسان الرئيس الروسي في إعلانه الشهير.

 

وعليه، ما من شك في أنّ السيد بوتين يعي تماماً ما يقول وأنّه بذلك سدّد ضربةً مقصودةً حين استبق إعلانه عن اللقاح إتمام المرحلة الأخيرة من التجارب السريرية. إذ أنه بذلك أخلّ بتوازن اللاعبين في سباق تطوير اللقاح كشركات تصنيع الأدوية والمستثمرين (دولاً وأفراداً). فاختياره توقيت الإعلان عشيةَ بدء المرحلة الثالثة للتجارب السريرية على لقاح سبوتنيك أتاح لمشاركة العديد من الدول ممن لم يحظوا بفرصة المشاركة بتجارب موديرنا وأسترازينيكا كالفلبيين التي ستبدأ تجريب اللقاح لديها في أكتوبر/تشرين الأول القادم. وهذا بدوره يستقطع لروسيا جزءاً من السوق العالميّ قد ينمو لاحقاً أكثر فأكثر بانضمام آخرين إلى قائمة المهتمين باللقاح الروسيّ بعد أن كان لأسترازينيكا وموديرنا وغيرهما نصيب الأسد من السوق العالميّ.

 

يذكر أن إسرائيل كذلك أبدت اهتماماً على لسان وزير صحتها يولي إيديلشتين والذي أعلن عن وجود مشاورات مع الجانب الروسي بغية التأكد من جدية اللقاح (بحسب ما أورد موقع تاغس شاو (Tagesschau) التابع للقناة الإخبارية الأولى للتلفزيون الألماني ARD)، وأخيراً، لا يستبعد أن يكون لإعلان بوتين أيضاً دورٌ في رفع الضغط على الرئيس الأميركي ودفعه لإعلانٍ مماثل، ربما في أكتوبر القادم لترميم ما تهشّم من صورته في طريقة تعاطيه مع أزمة كورونا. في هذه الحالة ستكون موديرنا على الأرجح بطلة القصة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.