شعار قسم مدونات

لماذا يتنكر الكتاب لكتاباتهم؟

blogs - الكتابة

في حوار له، وفي سؤال المحاور له، عن الكتاب الذي قرأه ويتمنى لو أنه كان كاتبه، أجاب كيليطو: "بلا شك هو أحد كتبي"، وهو بهذا القول لا ينزع إلى منزع غروري إن جاز التعبير، وإنما ينزع إلى منحى آخر من الكلام، صرح كيليطو في أكثر من مناسبة، أنه لا يعود إلى قراءة ما كتبه، فهذه عادة لم تكن محببة إليه، ربما لأنه يعجز عن فعل ذلك بسبب الخوف، أجل الخوف من أن يعود إلى مكتوباته فتصيبه خيبة أمل. أين كنت عندما كتبت هذا الهراء؟ أين كان عقلي؟ لا شك أني كنت في مكان مختلف غير نفسي، لا ريب أن الذي كتب هذا هو النسخة الرديئة من ذلك الكاتب الذي يحتل شخصيتي، ولا ريب كذلك أني عندما كتبت هذا، لم يكن عقلي في جمجمتي، كان في أي مكان إلا أن يكون في رأسي، هذا الكلام ليس كلاما لكيليطو، ولكنه تأويل له، والتأويل قد يصيب كما قد يخطئ على السواء، غير أن المفارقة في فلسفة التأويلات، ليست مسألة صواب أو خطأ، وإنما التأويل نفسه بالدرجة الأولى، وطرافته على المستوى الثاني.

 

وزاد كيليطو في تصريحه، أنه عندما يضطر للعودة لما كتب، فإن ذلك يكون بصدد عودة محكومة بسياقها، سياق البحث عن معلومة أو سياق اتخاذ المكتوب مرجعا في بحث جديد، وفي غمرة هذه العملية يتوقف مصدوما، أحقا أنا كاتب هذا الكتاب؟ أأنا صاحب هذه الفكرة؟ لا أصدق! لا شك أني لم أكن أنا عندما كتبت هذا؟ أجل ملاحظتك في محلها، في كلا الحالين، في العودة المصحوبة بالخيبة، وهي العودة الأولى التي أولناها سابقا، وفي هذه العودة المحكومة بسياق البحث، يتبرأ الكاتب من نفسه، ويفاجأ وهو يطالع بعينيه ما سبق أن كتبه، فينفي عن نفسه أن يكون قد كتب ما عاد إليه، وإذا كان النفي الأول مصحوبا بقيم السلب، فالثاني مصحوب بقيم الإعجاب وتمجيد الذات.

 

وفي هذا السياق ينبغي طرح سؤال أنطولوجي، فإذا كان الكاتب في كلا التجربتين، ينأى بنفسه، ويرفض أن يصدق أنه كاتب تلك السطور، فمن كان الكاتب حقا؟ لا حرج في أن ننظر إلى الأمر بجدية أكثر، ونزيح عن الكاتب في الحال الأول تهمة التهرب من مسؤولية ما سبق له أن كتبه، إن كان حقا ما كتبه رديئا، أو نخلع عيه صفة التواضع إن كان المكتوب قيما، ونفترض أن حالة شعورية تلتبس بنفس الكاتب وهو يرفض أن يكون كاتب ما كتب، فيقول لنا بلسان حاله: "لا لا، لست أنا كاتب هذا، إني أرى ما لا ترون". يلزمنا كما قلنا سابقا أن ندع كل هذا، ونحاول تصديقه، فلنفترض أن الكاتب أن الكاتب كتب نصا قبل عشرين سنة من العودة إليه، أيكون وهو قد كتبه في ذلك العمر، هو نفسه وهو في هذا العمر؟ وإذا استحضرنا مسلمة علمية، تفيد أن خلايا الجسم البشري، تموت وتستبدل بغيرها في كل حين، حتى إذا مر على الجسد فترة يكون الجسد قد اكتسى حلة جديدة، فوجهك قبل عشرين عاما، ليس هو نفس وجهك بعدها، فنحن لا نفتأ نغير وجوهنا على امتداد أيام العمر، شئنا ذلك أم أبيناه، انطلاقا من هذه الفكرة، فالموت والحياة في كيان الإنسان شيئان كامنان في طبيعته، فهو لا يفتأ يموت ويحيا ما عاش أبدا، وعلى هذا الأساس، لم يخطئ الذين قالوا، إن الموت جزء لا ينفصل عن الحياة.

BLOGS كتابة

وعلى هذا، فدعوى الكاتب، وهو يدخل في حالة صدمة، وينفي أن يكون كتب ما عاد إليه، ليست صدمة مفتعلة، ولا تكلفا زائدا، فهو في جانب منه على صواب، ونقول في جانب منه، لكوننا نتحفظ في مسألة الروح، فقد حللنا القسم الفيزيولوجي الذي يعيش تحت رحمته الكائن البشري، ولا ندري من أمر الروح شيئا، فهل روح الإنسان قبل عشرين عاما هو نفسه بعدها؟ (الروح يُذَكَّرُ في العربية)، فإذا كان الجواب بالإثبات، أي أنه يتغير وتطرأ عليه تبدلات، فستكون دعوى الكاتب صحيحة بنسبة مائة في المائة، وسيكون الكاتب الذي كتب نصا قبل عشرين سنة ليس هو نفسه الشخص الذي عاد إليه بعدها، وأما إذا كان التغير لا يطرأ إلا على الجانب الفيزيولوجي من جسد الإنسان، وتظل الروح كما هي، خالدة في تركيبتها، فدعواه ستكون في جانب منها صحيحة ولا اعتراض عليها، والجانب الآخر سيظل يكتنفه الغموض إلى أن يرد في المسألة يقين قاطع.

 

وما يعضد القضية الأولى، من أن الكاتب لا يكون هو نفسه، عندما يعود إلى مكتوباته بعد فترة، مسألة فنية تقنية، ولا يعلم إذا ما كان الكاتب وهو يضطلع بها، يستحضر ما نكتبه الآن، أم إنه يفعل ذلك بدافع العادة ليس غير، وإليكم المسالة كما هي: من الشائع في التقاليد الكتابية، أن الكاتب عندما يكون بصدد إنجاز بحث جديد، يعتمد من بين المصادر والمراجع في بحثه، كتبا سبقا له أن ألفها، وعندما يضطر الكاتب لإيراد فكرة أو فقرة سبق أن وجدت في كتاب له، يحيل إليها، كما يحيل إلى أي مرجع غيري، عنوان الكتاب، ورقم الصفحة، واسم المؤلف، ودار النشر، وتاريخ الطبعة الأولى، وإذا كنا نعلل تحري الدقة في إيراد الإحالات، وثبت لائحة المصادر والمراجع بتعليلات ثلاثة: الأولى: أن الكاتب وهو يكتب، يستشعر حس الأمانة العلمية، فيربأ بنفسه أن يسطو على فكرة من أفكار غيره، فيضمنها بحثه، وكأنها من بدائعه ختى وإن أَمِنَ ألا يفتضح في الأوساط، فإن حصل وافتضح، سوغ الأمر، بأنه توارد خواطر، ووقع حافر على حافر، وما أيسر ذلك. والتعليل الثاني: أن الكاتب بتوخيه العمل الجاد على الإحالات، يقدم ذاته في صفة الباحث الجاد والرصين الذي بذل مجهودا وقرأ كثيرا. أما التعليل الثالث: فلا يعدو أن ينظر الباحث إلى كون إثبات الإحالات، تقنية فنية، لا بد من امتثالها في التقاليد الكتابية المعاصرة.

 

هذه هي التعليلات، فبماذا نعلل إحالة الكاتب على نفسه؟ أي إحالته على كتب أخرى سبق أن ألفها؟ لن يحاسبه أحد إذا لم يحل على فكرة له سبق أن أوردها في مؤلف سابق، فهي تعود له على كل حال، وإن استعرنا لغة الاكتشافات العلمية، فهي مسجلة في براءة اختراعاته، والقول إنه يتباهى بكتبه، أو يسوق لها بالإحالة عليها، قول معقول، لكنه رجم بالغيب واتهام لنوايا الخلق، وهو لذلك غير مقنع رغم وجاهته عند هذا، لم يبق بحوزتنا إلا ما سبق أن خضنا فيه، فالكاتب وهو يحيل على أفكاره في كتب سبق أن ألفها، يستحضر شعوريا، قد يكون واعيا به وقد لا يكون، أنه إنسان آخر، إنسان طرأت على شخصيته تغيرات وتبدلات طفيفة أو جذرية، وهو إذ يحيل إلى هذه الكتب، فإنما يحيل إلى أشخاص آخرين، ولو سئل عن هذا الأمر، فالأرجح أنه سيقول: لم أكن أنا أنا حين ألفت ذلك الكتاب، والأمانة العلمية، تقتضي أن نعيد الأفكار إلى أصحابها إذا أوردناها في بحوثنا، فأين العجب في ذلك؟ ولمَ هذا السؤال الغريب؟

 

إذا قال هذا، فعلينا أن ندرك حينها أنه صادق في أقواله، والأمر بعيد عن أي تحذلق أو فلسفة فارغة. ومن هذا المنطلق، يطرح تساؤل شائك، يتعلق بمسؤولية الكتاب عما يكتبونه، فهل يعد الكاتب مسؤولا عن كتبه؟ بالنظر إلى ما استخلصناه من هذا المقال، فلا يعد الكاتب مسؤولا عما كتبه، لاسيما إذا مرت على كتابته فترة عمرية متباعدة؛ لأنه ببساطة كان شخصا آخر، ولم يعد الرجل نفسه، وإلا كانت المسؤولية هنا، تلصق بإنسان آخر، لا علاقة له بالأول.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.