شعار قسم مدونات

السودان ومأزق التطبيع.. رغبة داخلية أم إملاءات خارجية؟!

Sudanese Foreign Ministry spokesman Haidar Badawi al-Sadiq

عادت إلى الواجهة مرة أخرى جدلية العلاقات السودانية الإسرائيلية التي ابتدر لقاءاتها الفعلية والرسمية الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني وذلك عندما التقى في عنتبي اليوغندية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في لقاء أراده البرهان أن يكون سراً ولكن أفشأه الأخير عندما أعلنه على حسابه على توتير في شباط /فبراير من العام الجاري، وامتداداً لذلك اللقاء تحدث قبل يومين الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية السودانية المقال لاحقاً بسبب تصريحه بأن الخرطوم تجري لقاءات مع تل أبيب بهدف التطبيع النهائي معها وإعلانه على الملأ، ومتحدثاً عن أهمية تلك الخطوة، ويأتي الحديث عن التطبيع السوداني الإسرائيلي بعد الخطوة التي قامت بها دولة الإمارات وإعلانها التطبيع الكامل مع دولة الكيان الصهيوني.

خرطوم اللاءات الثلاث ماذا أصابها؟

في عام 1967م وهو ما عرف بعام النكسة عندما خسرت الجيوش العربية معركتها مع إسرائيل، لم يجد العرب عاصمة تضمد جراحهم وتُشَدُّ من أزرهم وتُحي فيهم روح المقاومة والترابط والتماسك وتقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، فجميع العواصم العربية وقتها خشيت على نفسها من الاستهداف والحرب والدمار، متخذة سياسة النأي بالنفس خوفاً من مصير الإردن ومصر وسوريا، فكانت الخرطوم التي آوتهم جميعاً والتي شهدت انعقاد مؤتمر الدول العربية بها لبحث ما بعد النكسة وهو ما عرف باسم قمة اللاءات الثلاث حيث خرجت القمة بإصرار على التمسك بالثوابت من خلال ثلاث لاءات – لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل أن يعود الحق لأصحابه.

 

ومنذ ذلك الوقت ظل السودان يقف موقفاً مشرفاً وثابتاً من القضية الفلسطينية دافعاً ثمن ذلك حصاراً إقتصادي واعتداءً على أراضيه وفقدانه جزءاً منها؛ بالرغم من أن السودان لا تربطه أي حدود جغرافية مع إسرائيل أو اعتداء مباشر عليه وقتها منها، ولكن بعد نجاح التغيير الأخير في السودان وتولى الشركاء الحاليون مقاليد الحكم في البلاد تغييرات كل المعادلات والثوابت، ويعود ذلك بأن تلك الحكومة لا تملك إرادة محلية حقيقية ولا مشروع وطني، وإنما تسعى إلى تنفيذ جميع الأجندة التي تملئها عليها بعض دول المنطقة ومخابراتها التي أصبحت تحدد وتخطط لسياسات السودان الداخلية والخارجية، لذلك يظل السودان اليوم فاقداً لإرادته وقراره، فالموافق التي تصدر منه أي السودان بالتأكيد لا تعبر عن إرادة شعبه ولا منظمات مجتمعه المدني والحقوقي.

تخبط السلطة الحالية وانحرافها عن مسارها الدستوري

لا تنفصل خطوة التطبيع هذه عن الخطوات السابقة لحكومة الفترة الانتقالية التي تعد محدودة المهام بحكم أنها ليست حكومة شرعية أو منتخبة من قبل الشعب، فكثيراً من قرارات الحكومة الحالية تفتقر للباقة والاختصاص وكذلك الشرعية القانونية والدستورية، بل حتى تنافي نصوص الوثيقة الدستورية التي قامت عليها مؤسسات الحكم الحالية، فتلك الوثيقة نصت على أن محور العلاقات الخارجية من اختصاص مجلس الوزراء وليس المجلس السيادي الذي يترأسه البرهان والذي يعد دوره تشريفياً والذي ابتدر فتح ملف التطبيع مع إسرائيل عندما التقى نتنياهو بيوغندا، تلك الخطوة لم تجد حتى استنكاراً أو رفضاً من السلطة المدنية المتشاركة مع العسكر إدارة البلاد وهذا يؤكد بأن المكون المدني كان على علم وموافقة بما فعله الجنرال التشريفي.

 

هذه الحكومة بطبيعتها الدستورية ليست لها الحق في تقرير أي مصير أو اتفاق يؤثر على مستقبل السودان وعلاقته بالمجتمع الدولي، فهي حكومة مهام محددة بطبيعة الحكومات الانتقالية التي يكون شغلها الشاغل هو إيقاف التدهور الإقتصادي والمحافظة على الثوابت الوطنية وحفظ أمن الشعب وحمياته من أي اعتداد داخلي أو خارجي، وثم تهيئة البلاد إلى انتخابات يحدد فيها الشعب مصير من يحكمه ويقرر في قضاياه المصيرية بأدواتها المتعارف عليها، ولكن يبدو بأن هؤلاء عاجزون عن كل شيء فلا تدهور إقتصادي أوقفوه ولا أمن حفظوه في ظل تلك السيولة الأمنية التي تضرب السودان شرقا وغربا واقتتالا قبلي، ولا يُستبعد أن يكون مصنوعاً من أن أجل استعجال وضع السودان تحت الوصايا الدولية التي طلبتها السلطة الحالية.

العائد على السودان من التطبيع

لو تأملت وتدبرت السلطة الحالية في السودان شأن الدول التي طبعت علاقتها مع إسرائيل، ستجد بأن تلك الدول لم تجني سوى السراب والذل والإهانة، فالسودان تحيط به دول مطبعة علاقتها مع الكيان الصهيوني مثل دولة جنوب السودان الدولة الوليد من رحم السودان نفسه، وكذلك تشاد وإرتريا وإثيوبيا وموريتانيا ومصر وأخيراً الإمارات التي رفضت حكومة تل أبيب بيع طائرات "أف 35" الأمريكية لها وذلك عندما طلبت من الإدارة الأمريكية فعل ذلك، فالناظر إلى حال تلك الدول سيجد بأن التطبيع ما زادهم إلا خبالا وضعفا.

تطبيع السوادن علاقته مع إسرائيل في ظل هذه الحكومة وارد وبشكل كبير جداً بالرغم من أن هؤلاء يعلمون بأنه إثم كبير وإن كان غير ذلك فلماذا يكرهون أن يتطلع الآخرون على ما يجري بينهم وبين إسرائيل

السلطة القائمة في السودان تعتقد بإمكانها أن تقايض مسألة التطبيع الكامل مع الكيان الصهيوني برفع اسم بلادهم من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو حلم بعيد المنال فالسطلة الحالية دفعت تعويضات لأسر ضحايا المدمرة كول دون جدوى وبل ربما تدفع لضحايا السفارتين ولن يتم رفع اسم السودان من تلك القائمة؛ والأنكى والمضحك والمبكي في آن واحد أن يهرول السودان اليوم إلى إسرائيل من أجل إزالته من قائمة الإرهاب وكأنه لا يدري بأن إسرائيل هي أساس ومنبع الإرهاب الإنساني والعسكري والأخلاقي والفكري، – فقل لي ماذا يسمى قتل الأطفال وحصار المدن واحتلال أراضي الآخرين ومنعهم من الغذاء والدواء والكساء؟ وإلا فنبحث عن معنى أخر للإرهاب-، والذي يتم برعاية الولايات المتحدة الأمريكية نفسها التي تضع السودان في تلك القائمة المسيسة؛ فالسودان لن يجني من ذلك التطبيع سوى الخزي والندامة والعار، ولكن ربما يجني الذين ينفذون تلك الخطوة والذين هم على سدة الحكم اليوم قليل من الرضى والقبول من أولياء نعمتهم وربما وعدوهم بدعم مالي سيكون سراباً يحسبه الذين في السطلة الآن بأنه "دعما إقتصادي" ينقذهم من مصير النظام السابق.

 

ختاماً: لا أحد يمكنه أن يزاود على موقف السودان من القضية الفلسطينية بل يكاد يكون ما قدمه السودان لفلسطين وقضيتها عجزت عنه حتى بعض الفصائل الفلسطينية التي تتحدث اليوم باسم النضال والدفاع عن قضايا القدس، فتطبيع السوادن علاقته مع إسرائيل في ظل هذه الحكومة وارد وبشكل كبير جداً بالرغم من أن هؤلاء يعلمون بأنه إثم كبير وإن كان غير ذلك فلماذا يكرهون أن يتطلع الآخرون على ما يجري بينهم وبين إسرائيل، فإقالة الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية السودانية تم بناءً على أنه أفشى ذلك الحوار الذي يجري الآن والذي شكل لهم رهبةً وخوفاً كبيراً من شعبهم، فالخرطوم اليوم مسلوبة الإرادة مشلولة التفكير فاقدة البوصلة راهنة قراراها ومستقبلها لتلك الدول التي تسيطر على الذين هم في السلطة الآن، فهذا التطبيع لن يمثل السودان وشعبه والذي بدوره لم يفوض أحداً بالقيام بذلك، وأخيراً تظل القضية الفلسطينية قضية إنسانية وليست سياسية أو دينية أو أيديولوجية أو إعلامية أو حتى عربية وإنما هي قضية أخلاقية وإنسانية حيثما وجد الإنسان السوي القوي وجدت تلك القضية في نفسه وأولوياته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.