شعار قسم مدونات

فيلم The Post.. الصحافة الحرة لا يمكن أن تكون في خدمة الحاكم

قليلة هي الأفلام التي تتحدث عن علاقة السلطة بالصحافة، وهي علاقة غالباً ما تأخذ شكل التابع والمتبوع، بخاصة في دول العالم الثالث، لكن رغم ذلك تظل هناك نماذج مشرقة من الصحافة الحرّة ترفض أن تأتمر بأوامر الحكومات ورغباتها، كما حدث في قضية "أوراق البنتاغون" التي تم تجسيدها في فيلم The Post  (اختصار لاسم صحيفةThe Washington Post ) الذي أنتج عام 2017، وهو توقيت بالغ الأهمية يعيد التذكير بأهمية الصحافة ودورها الريادي بعد أشهر قليلة من انتخاب دونالد ترامب؛ الرئيس الأمريكي الذي يعادي الصحافة وتتهمه هي بالتضييق عليها.

 

تدور أحداث الفيلم وهو من إخراج ستيفن سبيلبرغ ومن إنتاجه، حول الفضيحة التي تفجرت خلال عهد الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، بعد تسريب دراسة للبنتاغون توثق تفاصيل السياسة الأمريكية في حرب فيتنام، وتكشف تورط أربعة رؤساء هم: هاري ترومان، دوايت آيزنهاور، جون كينيدي، وليندون جونسون بإخفاء حقائق حول الحرب، وتشير إلى أخطاء التقدير التي وقعت فيها إدارة جونسون وأدت إلى استمرار الالتزام العسكري الأمريكي فيها، إذ نشرت صحيفة نيويورك تايمز عام 1971 معلومات مسربة من وزارة الدفاع تكشف تضليل الإدارات الأمريكية للرأي العام حول حقيقة ما يجري في فيتنام، ورغم أن نيكسون لم يكن متورطاً في القضية إلا أنه عارض نشر المعلومات التي تتضمنها الوثائق باعتبارها تمس الأمن القومي، ليصدر المدعي العام أمراً بوقف النشر في الموضوع، لكن صحيفة واشنطن بوست تصدرت المشهد حين حصلت لاحقاً على مجموعة كبيرة من الوثائق لذات القضية، وهو ما أشعل فتيل المواجهة بين الصحيفتين والبيت الأبيض حول حريتهما في نشر هذه الوثائق.

 

يبدأ الفيلم بمشهد من حرب فيتنام عام 1966، يلقي الضوء على الخسائر التي كانت تتكبدها القوات الأمريكية هناك، ثم ينتقل في المشهد الذي يليه إلى حديث روبرت ماكنامارا وزير الدفاع في عهد الرئيسين جون كينيدي وليندون جونسون، مع أحد مستشاري الرئيس عن الخسائر المتلاحقة للولايات المتحدة في فيتنام، وفي المشهد التالي ينزل ماكنامارا من الطائرة ويصرح للصحافيين بأن القوات الأمريكية أحرزت تقدماً في الأشهر الأخيرة.! لكن مساعده لشؤون الأمن دانيال إلسبيرغ الذي شارك في عمليات قتالية في فيتنام لمدة عامين، لم يكن راضياً عن عملية التضليل الإعلامية التي كانت تمارسها الإدارة الأمريكية، فقام بتسريب دراسة أعدها ماكنامارا نفسه لصحيفة نيوريورك تايمز، وهو الأمر الذي أثار جنون محرر واشنطن بوست (بين برادلي) الذي يؤدي دوره النجم الكبير توم هانكس، إذ إن برادلي يبحث عن سبق صحفي يضع صحيفته ـ التي كانت حتى تلك اللحظة مجرد صحيفة محلية ـ على قائمة الصحف الكبرى، فيطلب من ناشرة الصحيفة (كاثرين غراهام) أن تحصل على الدراسة من ماكنامارا الذي كانت تربطه بها صداقة قوية، الأمر الذي ترفضه غراهام، ليكلف برادلي فريقه الصحفي بالعثور على الوثائق.

 

غراهام التي أدت دورها باقتدار الممثلة العظيمة ميريل ستريب، كان رفضها طلب الحصول على الوثائق من صديقها المقرب مفهوماً في سياق أحداث الجزء الأول من الفيلم، فهي امرأة ضعيفة الشخصية ولديها شكوك حيال إمكاناتها لقيادة الصحيفة، وهي الشكوك ذاتها لدى أعضاء في مجلس إدارة الشركة ومستثمرين فيها، إذ لم يكن أمراً معتاداً في ذلك الوقت أن تكون امرأة في مثل هكذا موقع، لكن الأقدار هي التي أصرت على أن تكون في ذلك الموقع بعد أن توفي والدها الذي أوصى بالصحيفة لزوجها، لكن زوجها انتحر لتؤول الصحيفة في النهاية إليها، هذه الشخصية المرتبكة تجسدها ستريب ببراعتها المعتادة، ويبرزها لنا المخرج المبدع ستيفن سبيلبرغ حين تتعثر بكرسي في المطعم وهي ذاهبة لتناول الإفطار مع برادلي، ثم في اجتماع مجلس الإدارة لبحث بيع أسهم في الصحيفة، كانت فيه الأضعف ولم تكد تنطق ببضعة حروف، رغم أنها سهرت حتى وقت متأخر وهي تحضر للاجتماع، فهي امرأة اكتسبت موقعها بسبب الإرث العائلي دون خبرة مسبقة، ولم تتقلد المنصب بكفاءتها، وبالتالي فالجميع كانوا ينظرون إليها كشخص ضعيف لا يمكنه اتخاذ قرارات مصيرية.

ينجح فريق برادلي في الحصول على أربعة آلاف صفحة من الدراسة، لتبدأ بعدها مهمة (بين) في إقناع (كاي) بالنشر، إذ يتصل بها على الهاتف ليطلب موافقتها على النشر، لكن المكالمة الهاتفية التي كان يستمع إليها أعضاء في إدارة الصحيفة، ما تلبث أن تتحول إلى جدال حاد بين برادلي وأولئك الأعضاء، حول صحة النشر من عدمه، والعواقب التي يمكن أن تترب عليه، فيما كاثرين حائرة بين وجهتي نظر متضادتين، وبعد تردد تعطي موافقتها على النشر، وهو القرار الذي مثل نقطة تحول في حياتها المهنية والشخصية على حد سواء، إلا أنه وقبل موعد طباعة الصحيفة بساعات قليلة يكتشف فريق برادلي عقبة قانونية، إذ تبيّن أن مصدرهم هو ذاته مصدر نيويورك تايمز، وهذا من شأنه ـ في حال النشر ـ أن يعرّض برادلي وغراهام للسجن، وربما إغلاق الصحيفة وخسارة العاملين فيها لوظائفهم، وهو ما يضع كاثرين على المحك مجدداً؛ نقاش آخر متحدم بين برادلي وإدارة الصحيفة، ولكن هذه المرة في بيت كاثرين التي تحولت فجأة من وريثةٍ خائفة ومتردد إلى قائدة حازمة وحاسمة:

 

– "هل يمكن أن نطبع دون أن نعرّض أياً من جنودنا للخطر؟" تسأل برادلي

– "نعم مئة بالمئة" يجيبها برادلي

– "إضافة لكونها مصدراً للأخبار، الصحيفة مكرسة لصالح الأمة، ولمبادئء الصحافة الحرّة.. قراري قائم وسنذهب للطباعة" تقولها بحزم قبل أن تغادرهم وتخلد للنوم.

نشرت الصحيفة المقالة وهي تعلم أنه ستتم مقاضاتها، وهو ما حدث فعلاً، ولكن وفي حركة تضامنية استبقت جلسة المحكمة العليا التي انعقدت بشكل عاجل للنظر في القضية، قامت بقية الصحف بنشر المعلومات ذاتها قبل يوم واحد من موعد انعقاد الجلسة، التي مثل فيها مسؤولو واشنطن بوست ونيوريورك تايمز أمام تسعة قضاة انتصر ستة منهم لحرية الصحافة، إذ كان قرارهم: "الآباء المؤسسون منحوا الصحافة الحرة الحماية التي يجب أن تحظى بها للوفاء بدورها الأساسي في ديمقراطيتنا، وهذا لأن الصحافة في خدمة المحكومين، وليس الحكام"، وهو النهج الذي واصلت الصحيفة على أساسه مسيرتها، فرغم منع نيكسون مراسليها من دخول البيت الأبيض ـ كما يظهر في المشهد ما قبل الأخير من الفيلم ـ إلا أن المشهد الأخير منه يشير إلى فضيحة ووترغيت التي فجرتها الصحيفة وتسببت في استقالته، في تأكيد على أن الصحافة الحرة لا يمكن أن تكون في خدمة الحاكم أبداً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.