شعار قسم مدونات

على أطلال العراق.. مئوية ثوّرة العشرين

في الذكرى المئوية لثوّرة العشرين، والتي تُعدّ نقطةَ انبثاق للدولةِ العراقيّة الحديثة، وانعتاق للهُوية الوطنيّة، بوصفها استجابة موحدة ضدّ خطرٍ خارجي، من الجدير بنا استعادة آثار تلك الملحمة التاريخية، مع توخي حذر أن تطغى على تلك الاستعادة، كثرةُ الصراعات والأساطير حولها، يمكنّنا أنّ نطلق القولَ بثقة، حول صعوبة وسوء الأوضاع في العراق في 1917، حيثُ كان غزوه واحتلاله يسيرًا، نظرًا لضعف الدولة العثمانية وتخلف أدواتها، وتخاذل الجيش العثماني عن مقاومة الغُزاة، وانتحار قائده أمامهم. إلّا أنّ العراقيين، قاوموا غير مرة قوات الاحتلال، وغالبًا ما انتهت تلك المقاومة بردعٍ دموي وحصارٍ ونفي واعتقال وملاحقة.

 

يمكن القطع بمدى وطنيّة ثوّرة العشرين، باعتبارها فعلًا عراقيًا خالصًا، وظفت ما أُتيح من أدوات وإمكانات محدودة وبيضاء لدى السُكان المحليين دون دعمٍ أو تدخلٍ خارجي، تعنوّن المباحث المؤرخة لثوّرة العشرين تحت مسمّيات عدة، منها «الثوّرة العراقيّة الكبرى»، كما يُؤرخ عبد الرزاق الحسني، في تاريخ الوزارات، بعدّها سبّباً أجبرَ البريطانيّين على تأسيس حكمٍ وطني عراقيّ هجين، يلبي مطامح العراقيين للاستقلال، ويؤمن المطامع والمصالح البريطانيّة، في آنٍ معًا.

 

كما يرى الاجتماعي العراقي، د.علي الوردي، في كتابه: «لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق الحديث» أنّ ثوّرة العشرين كانت أول حدثٍ يشتركُ فيه العراقيون بمختلف فئاتهم وطبقاتهم، العمامة بجانب الطربوش، والكشيدة إلى جانب اللّفة القلعية، والعقال جنب إلى جنب مع الكلاو، يوحدّهم شعار:"يحيا الوطن" وهي إشارة تأصيلية للروح المواطنيّة العابرة للتطيّيف والمذهبّة، وهو بمثابةِ نفيّ صريحٍ، لما يتم إسباغه اليوم على الثوّرة، من تحريفٍ سطحيّ وتعميمٍ تعسفي وقطيعة مع التاريخ، بوصفها حدثًا ذو بعد واحد، محدّد قبليًا، ومناطقيًا وطائفيًا وفئويًا، كما يستمرُ الوردي في الحفر البنيويّ للثوّرة، إذ يُعللها لأسبابٍ اقتصاديّة وسياسيّة، منها التضخمُ النقدي، والمجاعة، وفداحة الضرائب، والتسلط على رقاب العراقيين، بفرض العقوبات العرفية وجلد الناس في الشوارع واحتكار الجيش البريطاني للغذاء، وأيضًا بسبب تطبيق سياسات «فَرق تسد»، بين العشائر ما حفزَ وحرك التباغض والعداوة، وأيضًا لاستبداد وفظاظة الحكام البريطانيّين وعنصريتهم، وقلّة حكمتهم وخبرتهم، فضلًا عن عدمِ احترامِ العراق وأبناءِهِ وخصوصيته الثقافيّة، والوحشيةِ في التعاطي مع الأحداثِ والمشاكل، مثل ما نجده لدى السيّد آرنولد ويلسن، المندوب الملكي وحاكم عموم العراق، والنقيب لجمان الذي كان حاكمًا للموصل، ثم للأنبار، وانتهى الحال به قتيلًا على يد ولد الشيخ ضاري، شيخ عشيرة زوبع.

وفي ذلك ايضًا، ما يردُ عن السيد علوان الياسري، قوله للنقيب مان، حاكم غمَاسْ: "عرضتم علينا الاستقلالَ، ونحن لم نطلبه أبداً، ولم نحلم بهِ أبداً؛ إلاَّ حينما وضعتموه في رؤوسنا، وفي كلِّ مرةٍ نُطالب بهِ، تسجنوننا". إن بيان مود "جئنا مُحرّرين لا فاتحين" ثم ما جاءَ في البلاغِ الانكليزي الفرنسي، في 7 من تشرينٍ الثاني 1918، إنَّ الغايةَ التي ترمي إليها كلٌ من فرنسا وبريطانيا العظمى، في خوضِ غمارِ الحربِ في الشرقِ، جَرّاءِ أطماعٍ ألمانية، هي تحريرُ الشعوبِ التي طالما رَزَحتْ تحتَ أعباءِ استعبادِ الأتراكِ، تحريراً تاماً نهائياً، وتأسيسُ حكوماتٍ وإداراتٍ وطنيةٍ تسْتَمدُ سلطتَها من رغبةِ نفسِ السكانِ الوطنيّينَ ومحضِ اختيارِهم، ما أُستثمرَ في تنشيطِ ودفعِ المُطالبات بالاستقلال العاجل والتام، بجانب ما يردّ العراق من منشوراتٍ عربيّة وتركيّة وإيرانيّة وبلشفيّة حفزّتهم لمناهضة للبريطانيّين، وخاصةً في الموصل، حيث الصلاتُ القوميّة بالأتراك، والتأثير المباشر للحركات العربيّة في الشام، على سكانها من المتعلمين، كما لعبَ الضباطُ العراقيين الذي شاركوا في الثوّرة العربيّة، دورًا في استحثّاث القوميّة العربيّة والنضال ضدّ الدولة العثمانية والاستعمار.

 

وهنا نرى المؤرخ العراقي الكردي، كمال مُظهر أحمد، يشير في كتابه: «دور الشعب الكردي في ثوّرة العشرين العراقيّة» بأنّ دور الكُرد في الثوّرة، يجب أنّ يُعالَجَ، لا من حيثُ مدى الاشتراك الفعليّ، في أحداث الثوّرة ذاتها، وحسب، بل وأيضًا، بدوره في العملية الثوّرية الممهدة للثوّرة، عشيَّةَ اندلاعها. ومَثلُ ذلك انتفاضة تلعّفر والعماد، والحركة التي قام بها محمود البرزنجي في شمال العراق ضد الانكليز، والتي استغرقت أشهرًا من القتال، وهذا ما وضعه المؤرخ الروسي ل. ن. كوتلوف، إذ يقول في كتابه: «ثوّرة العشرين: الوطنيّة التحرّرية في العراق» بأنّ الثوّرة، اندلعت في العراق كُله، اندلاعَ النار في الهشيم.

 

مهدّت فتاوى المُجتهدين والعُلماء الشيعة، كالشيرازيّ والأصفهانيّ والخالصيّ، مثل فتوى الحائري الشيرازي:"ليسَ لأحدٍ من المسلمينَ أنْ ينتخبَ ويختارَ غيرَ المسلمِ للإمارةِ والسلطنةِ على المسلمين" التي شكّلت تاريخًا من الأحداث في النجف، ولاحقًا حركة "الجمعيّة الإسلاميّة" السريّة في كربلاء والحلّة، التي أسّسها الميرزا مُحمَّد رضا الشيرازيّ، نجل المرجع الشيرازيّ، والطبقة العُلمائية معهُ، والتي ستتسبّب لاحقًا في اعتقاله الذي يُعدّه الوردي، القادح الذي أشعلَ شرارة الثوّرة، في سهوب الفرات الوسطى، وذلك، لأنّ طبقةً واسعةً مِن المزارعين والعُمال شكوا استنزافَ قُدراتهم الإنتاجيّة، بجانب رؤية الطبقاتِ المُتعلمة في المُدن لخطورةِ الأطماعِ الأجنبيّة، وهيمنتها على قرار العراقي ونهبها لثرواته، وبالتالي، ضرورة الاستقلال، والمطالبة حق تقرير المصير والتخلص من الاحتلال البريطاني، فبزغت شمس الحركة الوطنيّة التحرّريّة، عند أمثال جعفر أبو التمن وآل داوود وآل بازركان، عبر تنظيم حرس الاستقلال، قبل عام من الثوّرة، كما كانَت جريدة الفرات التي أصدرَها الشيخ محمد باقر الشبيبي لسانَ الثورةِ الناطق، ومثلُها كانَتْ جريدةُ الاستقلال.

في 30 من حزيران أُستدعي الشيخ شعلان أبو الجون، شيخ عشيرة الظوالم، إلى سراي الإنجليز بالرميثة جنوب العراق، وقد استجاب الشيخ شعلان للاستدعاء، لكنهُ أبدى شراسة وحِدَّةً في مقابلته، أدت لاعتقاله، ومِن ثمَ العمل على نقله إلى مدينة الديوانية عبر القطار، ما فجّرَ الغضبَ لدى أنصاره، الذين هاجموا السراي بغية تحريره، لتقدحَ شرّارة الثوّرة الشعبيّة بعد نجاح تحرير الشيخ شعلان. في 11 من تموز قرّر مشايخُ العشائر في المشخاب بالنجف، في مضيف الشيخ عبد الواحد الحاج سكر، إعلانَ الثوّرة، بمهاجمة أبو صخير بالكوفة، وفرض الحصار عليها ونجاح الاستيلاء على الكفل، مِن قِبَل عشائر آل فتلة، والغزالات، وآل شبل وآل إبراهيم، ما دفع الإنجليز لإرسال تعزيزاتٍ عسكريّة، وجرّت المواجهةَ بينهم وبين العشائر، في معركة الرارنجيّة التي انتهت بهزيمة الإنجليز وتقهقر قواتهم نحو الحلّة مخلفين قتلاهم وعتادهم وراء الظهور يوم اعتلت الأهازيج معلنةً انتصار الأسلحة البيضاء على المدافع: "الطوب أحسن لو مكواري!".

 

أُستشهد ما بين 6000 إلى 10000 من مناضلي الشعب العراقي، وسقط نحو 500 جندي بريطاني خلال الثوّرة. كلفت الثوّرة – التي تسمى في الوثائق البريطانيّة (العصيان المسلح أو التمرد الأهلي أو الانتفاضة المسلحة في العراق) المملكةَ المتحدة ما يُقدَّر بـ40,000,000 جنيه، ما دفع البريطانيّين لإعادة النظر في استراتيجية السيطرة على العراق. وفي انكفاء المدّ الثوّري بزغت الدولة؛ لقناعةٍ رسختّها الثوّرة بالدماء، عن استحالة حكم العراق بغير العراقيين. إنّما نستذكر هذه الثوّرة، ولقد جرت على العراق النائِبات العظيمة، وفيه انتفاضاتٌ تستكتبها الدماء، طلبًا للتحرّر والعدالة، ولأنّها طليعة الحركة التحررية الوطنيّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.