شعار قسم مدونات

مات طبيب الغلابة.. فمن يخلفه؟

منذ ساعات الصباح الأولى وفي اللحظة التي سلم فيها روحه الطيبة وسيل من الرحمات على روحه لا تتوقف، صور ودعوات بالرحمة على فيس بوك ومواقع التواصل لا تتوقف. حتى أن خبر وفاته تصدر مواقع إخبارية عربية شأنه شأن رئيس دولة أو حاكم، لكنه في الواقع هو ذلك الطبيب العجوز الذي توفي في مصر اليوم.. فلما كل هذه الضجة؟

 

أنه ابن مدينة طنطا الطبيب المصري الدكتور محمد مشالي الذي ذاع صيته في جميع أنحاء الوطن العربي، أبكى الملايين وتوحد العرب حول أفعاله الكريمة، هذا الرجل الذي بالكاد يحمل هاتفاً قديماً، يعمل في عيادته الضيقة التي تكتظ يومياً بالمرضى المتعبين من كل ظروف الحياة الصعبة. كان يفتح أبواب عيادته لكل كبير وصغير برسم شبه مجاني، بعد أن أثرت به الحادثة الشهيرة لطفل يعاني من مرض السكر، لكن والدته أبت أن تشتري له الدواء لإطعام باقي إخوته. منذ ذلك الحين كرس نفسه وعلمه لتقديم المساعدة للفقراء والمحتاجين من المرضى، في وقت ترتفع أجرة الأطباء في جميع أنحاء العالم ولعل الطب والعناية الطبية وتكاليفها الباهظة هي ما تقض مضجع المصريين وعموم العرب اليوم.

 

وبسبب سياسة الحجر الصحي جراء الجائحة، وتردي الوضع الاقتصادي ازداد الحال سوءاً على الفقراء ما أدى إلى تخلي الكثير عن أدويتهم وعلاجاتهم لغلاء ثمنها وتكاليفها الباهظة. ففي لبنان على سبيل المثال تعرض رجل لذبحة قلبية بعد توقفه عن تناول الدواء المخصص له نتيجة ارتفاع ثمنه، والوضع ينطبق على الكثير من المرضى مع الغلاء وانتشار الأوبئة.

أعلم لو أن الطبيب المصري محمد مشالي مازال حيا يرزق وقرأ مقال يمتدحه لن يكون سعيداً ولن يكون راضياً، فلقد رفض الكثير من الدعم المادي من تلفزيونات عربية شهيرة؛ فهو الكارهة للشهرة ولحفلات ا"لشو" المعروفة، كان رده عليهم "أن الفقراء واليتامى والمرضى أحق بالمال". أتحدث هنا عن طبيب الفقراء ليس لسرد سيرته العطرة فهو أدًى أمانته وربحت بيعته بإذن الله، وانتقل لربه راضياً مرضيا ً، ولكن أنا أبحث عن الخلف؟؟ ترى هل يوجد من الذين ذرفوا الدمع فرحا بإنجازاته، مشالي واحد؟؟! هل هناك من سار على دربه واقتدى به ؟ كم طبيب قرر أن ينسى المظاهر و"البريستيج "و الألقاب؟؟ واستعد لإنقاذ حياة الناس برمز مجاني؟؟

 

كم طبيب اليوم لمصر وأهلها؟ الذين يقبعون تحت رحمة المرض والفقر ؟؟ مَن اليوم مستعد لفتح عيادة مجانية وسط حي مصري أو حارة منسية في إحدى المدن الفقيرة؟ التجهيزات والمستشفيات الحكومية في مصر والكثير من البلدان العربية حدّث ولا حرج، ولا قدرة للناس بالمستشفيات الأجنبية أو الخاصة الباهظة الثمن، لذلك نبحث اليوم عن طبيب للفقراء ؟! وريث جديد لمشالي، ينتشل المرضى بعيداً عن الأضواء والإعلام. أن تنذر نفسك للعطاء هو أسمى مراتب الإنسانية، وسط زحام المغريات والأموال والألقاب، أنه الجهاد الصعب والتحدي الأكبر في هذه الدنيا.

 

وقف الطبيب مشالي رحمه الله في وجه كورونا مؤخراً جندياً لا طبيبا ً، يخاطب تلك المجتمعات الفقيرة المحرومة من أدنى عناية وربما من هاتف وتلفزيون وإنترنت، كان يخاطبهم دائماً دون كلل ولا ملل.. ابتعدوا عن الزحام افتحوا النوافذ، تجنبوا العصبية والتوتر، إن عصرنا اليوم هو عصر الطبيب دون منازع، فالحاجة إلى الأطباء تزداد مع تفشي الأمراض لاسيما فايروس كورونا، ولكن الحاجة إلى أخلاقيات الطبيب ومهنيته وإنسانيته تزداد أيضا، فهم جنود المعركة وهم رجال المرحلة.

 

فالطبيب اليوم يواجه صعوبات كثيرة وأمراض مستعصية ناهيك عن بعض اللغط والجهل من قبل المرضى، ليس عليك أن تكون "مشالي" ثاني ولكن حذار أن تنخرط في دوامة التجارة والاستثمار طمعاً في الثراء. فالمجتمعات العربية والمصرية خاصة تعاني ما تعانيه من مشاكل وآفات. فلا تكن جزار آخر وتحمل سكيناً لتأخذ حصتك منهم، كن الطبيب المنشود وكن الرحيم مع تلك العجوز التي تعد أيامها الأخيرة، والولد الذي أصيب بمرض مزمن منذ الولادة ! فلذًة العطاء اسمى، وتدوم أطول من المال.

لا تدعوا "مشالي" يموت فعلا!! بل نريد مئة وألف يولدون بعده. نريد الكثير من الأطباء الذين يسيرون على خطاه، فلا تظنوا شهرة طبيب الفقراء هي من فراغ! بل هي نداء من قلوب المجتمعات للامتثال به. بل هي صرخة من المرضى بالرحمة والرأفة بحالهم، فأحاديث الناس اليوم باتت عن ثمن الدواء الغالي وتسعيرات التشخيص المرتفع وسعر صور الأشعة والرنين والفحوصات. ببساطة أتفه الأمراض اليوم هي كفيلة بإفقار أي إنسان متوسط الحال. وبعد حسبة طويلة يفضل هذا المريض التعايش مع مرضه. حتى لا يموت جوعا أو قهرا على تحويشة عمره.

 

"محمد مشالي" مات ودفن رافقته رحمات من المحيط إلى الخليج. لكنه اليوم ينادي أطباء العرب ألا تغلقوا عيادته. لا توصدوا أبواب عياداتكم في وجه الفقراء، انظروا إلى الأحياء الفقيرة وتسابقوا نحوها … استوصوا بالفقراء خيرا يا أطباء العالم !

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.