شعار قسم مدونات

ماذا لو لم أكن أما جيدة؟

الكمامة الفضفاضة قد تتسبب في تسرب الرذاذ وتقلل من مستوى الحماية

يعلو صوت جارتنا كثيرا ولا تتوانى عبارات التوبيخ والوعيد لطفليها تتطرق إليَّ رغما عني، فتسخطني، لا أحب عادة إصدار الأحكام، لكن حينما يتعلق الأمر بالأطفال، أجدني دون أن أشعر ألقي اللوم دائما على الوالدين؛ إذ أن مسؤولية الطفل تقع على عاتقهما ومن واجبهما أن يحسنا حملها.

 

في السنوات الأخيرة، تابعت الكثير من المختصين في تربية الطفل وقرأت عن تجارب بعض الأمهات في "التربية الحديثة" وعن كيفية التعامل حسب ما تقتضيه كل مرحلة عمرية، بحثت مطولا في فوائد الرضاعة الطبيعية لنفسية الطفل ونموه وفي أشياء أخرى كثيرة. تخيلت الأمر في بعض الأحيان ممتعا جميلا؛ من أول نفس ينطلق ل"قطعة" منك إلى أول ضحكة، فأول نطق فأول خطوة وأول عيد ميلاد..، صفحة بيضاء تخطينها أنت بما تشائين، تضمينها إليك، تضيفين إليها كل الألوان الجميلة التي تملكين، تهذبينها وتصقلينها، كل ذلك تفعلينه بكل ما أوتيتِ من حب؛ هكذا فقط كنت أعتقد في البداية.

 

يبدو أنني في هذه الأحيان، لم أفكر بأن النفَسَ لا ينطلق إلا مطولا بعد آلام المخاض وأن الصفحة البيضاء لستِ وحدك من تخطين بها، فنحن لسنا بمنأى عن العالم بدْءًا من المقربين والجيران والأصدقاء ودور الحضانة والمدارس وصولا إلى من لا صلة لهم من قريب ولا من بعيد، كل هؤلاء ستكون لهم بصمةٌ في الصفحة، ربما يصيبون وربما لا يفعلون، ربما تتمكنين من جبر ما كسرَهُ الآخرون وربما لا، وقبل كل هذا ربما أنتِ أيضا لا تفلحين فيما تخطين.

 

خسائر كورونا على النساء

لم أفكر بأن الـ"قطعة" منكِ سرعان ما ستنطلق في رحلة وعيها، ستحب أن تكتشف وتعي بكل ما يحيطها، ستحب أن تلعب وتشاغب، ولا أعرف إن كنتِ قادرة على تلبية كل هاته الاحتياجات، مع أول نفس للطفل، تجدين نفسك فجأة مسؤولةً عن تغذيته ونموه وصحته البدنية والنفسية ومسؤولةً عن علاقاته بكل ما يحيط به وعن حاضره ومستقبله، أفلا يحتاج هذا صبرا ؟

 

في الحقيقة، لا أعرف هل من الجيِّد أن أكونَ قد خمنت في كل هذا قبل أن يحين الوقت بكثير وقبل أن أفكر في الارتباط حتى وأرّقت تفكيري بأشياء لا أعرف متى ستبدأ ولا حتى إن كانت ستبدأ أصلا، أشياءَ لم تكن الأجيال التي سبقتنا تضع لها مخطاطاتٍ اعتبارا بأنها تكون بالفطرة، وربما هذا ما خلَّفَ كثيرا مما نحن عليه اليوم! الأفضل إذن حسب تقديري أن نتجهز نفسيا لكل الأدوار التي قد نقوم بها.

 

في فترة ما مررت بقسم طب نفس الأطفال، كنت دوما أتساءل كيف لطفل لا يعرف سوى قليلا عن حقيقة الحياة أن يقبل على الانتحار ويعيد الكرَّة المرَّة تلو المرَّة، أتساءل كيف لكائن صغير لم تقو أوصاله بعد أن يبدي بكل ما له من قوة كمًّا هائلا من الكره والحقد والعنف تجاه العالم ويبدأ في ممارسة طغيانه مبكرا كوسيلة لإثبات الذات، ولم أكن أقنع نفسي بغير تقصير الوالدين وسوء تعاملهما، كنت أصنِّفهما باستمرار في خانة الاتِّهام كونهما حسب ظنِّي السبب الأصلي لطبع الطفل وتصرُّفاته.

 

لطالما اعتقدت أن الإنجاب ليس بأمر "طبيعي" يفعله الجميع، وأنه يحتاج منَّا تفكيرا عميقا مطولا، لأجد مَن حولي لم يرهبهم من التجربة سوى الخوف على "رغيف" الطفل، بينما اندفع آخرون نحوها بمنطلق أن "الطفل يأتي ويأتي رزقه معه"، ولا يصدمني في كل هذا سوى أن الاثنين لم يفكرا في أن التربية أهمُّ وأصعب من الرغيف. لسنوات طويلة، أنتج العالم من المعوقين تربيةً وعاطفةً ونفسيِّةً الكثيرَ، ولا أعلم متى يتوقف عن ذلك !

Loving mother consoling insulted upset stubborn kid daughter avoiding talk

أقف لحظةً أفكر، ماذا لو أن الأمر سيبدو مختلفا حينما تكون بيادق الشطرنج بيدي؟ ماذا لو أنني سأكون كهؤلاء المنتجين، أساهم معهم في "صناعتهم" الفاشلة؟ ماذا لو لن أكون أُمًّا جيّدة؟ يعلو صراخي كما يعلو صراخ كثير من الأمهات، ينتهي صبري بلا حول لي ولا قوة، أقسو أحيانا، أتغاضى عن بعض الأشياء، لا أتمالك نفسي في بعض المواقف، وأقف عاجزة في بعض آخر… ربما المشهد سيكون مغايرا تماما لكل ما نخطط له حينما نكون طرفا في المعركة، وربما نكون أسوأ مما اعتقدناهم الأسوأ، لا نعرف!

 

خلاصة كل هذا؛ لا بد أن يتوقف المتفرجون عن إصدار الأحكام الموجهة بدعوى أو بدونها ولا بد لأطراف المعركة أن يعوا بأهمية النعمة التي وهبهم الله إيّاها ويسعوا جاهدين للمحافظة عليها. لا بد أن نعترف بأن شوائبا كثيرة تشوب مناهج التربية اليوم، يجب أن نواجهها بصدق ونسعى بحزم لإصلاحها.

 

أمهات وآباء الحاضر والمستقبل؛ أطفالكم رزقكم في الأرض، ضمُّوهم إليكم بحب، أنصتوا إليهم باهتمام ولا تستنسخوهم من نسخ جاهزة، احتووهم احتواء لا يمحق شخصياتهم، وتعاملوا معهم باعتبارهم "كائنات" قائمة الذات لهم ما لكم. لا تكونوا آباء وأمهات "سيئين" بقصد أو بغير قصد فالعالم أجمع يعول عليكم إذ أنتم من تصنعونه اليوم وغدا، لذا أحسنوا "الصنع"، لكم الأجر.

 

لا أعلم إن كنت سأكون أُمًّا جيّدة؛ ولا أعلم إن كنت سأكون على الدوام صبورة، متفهمة، منصتة وعطوفة، لكنني أعلم أنه لا وجود لأمهات مثاليات كاللاتي قرأت عنهن وأعلم أنني رغم كل شيء سأسعى جاهدة لأكون "الأفضل". وأختم بالقول الرائع للشاعر حافظ ابراهيم : "الأُمُّ مَدرَسَةٌ إِذا أَعدَدتَها أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعراقِ، الأُمُّ رَوضٌ إِن تَعَهَّدَهُ الحَيا بِالرِيِّ أَورَقَ أَيَّما إيراقِ." ومنه دعوة لكن جميعا -أمهات اليوم والغد- بأن تعددن للأمومة وتكن "مدارس مورقة " تمهد لنجاح الأمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.