شعار قسم مدونات

النقاط العشر لتفوق التجربة الألمانية في أزمة كورونا

تعتبر التجربة الألمانية في التعامل مع أزمة وباء كورونا نموذجا ملهما للكثير من دول العالم سواء من ناحية قلة نسبة الوفيات الناتجة عن الإصابة بالفيروس إذا ما قورنت مع دول أخرى وأهمها دول الجوار الأوروبي أومن ناحية الإدارة الحكيمة للأزمة والخروج من تبعاتها بأقل الخسائر خاصة أن المانيا كانت أول دولة في العالم تعلن سيطرتها على الوباء. وقد إعتمدت في إدارتها للأزمة إستراتيجية جمعت بين الدقة والمهنية في تعاطيها مع الأحداث اليومية وبين المرونة والضغوط الناعمة دون فقدان السيطرة على الميدان فكان أن رفضت فرض حظر التجوال الشامل برغم العدد الكبير من الإصابات واكتفت فقط بمنع التجمعات لأكثر من شخصين وإغلاق مرافق الدولة لمدد قصيرة .

تطورات الوباء من المواجهة الى التعايش

يعتبر تاريخ 27 يناير 2020 اليوم الأول لتسجيل أول إصابة بفيروس كورونا في المانيا والتي كانت لرجل في ولاية بافاريا نقلت إليه العدوى عن طريق موظفة كانت تعمل في مصنع لقطع غيارالسيارات في مدينة ووهان بؤرة الوباء الأولى في الصين تم على إثرها إصابة 16 شخصا وتحديد 241 شخص من المخالطين تم عزلهم كليا وقطع سلسلة العدوى الأولى في مهدها بعد تحديد هوية المريض رقم صفر.

 

بعد أربعة أسابيع من هذا التاريخ أعلن عن إكتشاف عدد من الإصابات الجديدة لدى مجموعة من الألمان العائدين من العطلة الشتوية من مناطق التزلج في ولاية تيرول النمساوية تبعها تسجيل مجموعة كبيرة من الإصابات في ولاية شمال الراين ـ ويستفاليا يعود سببها الى إختلاطات كثيرة للسكان في حفل الكرنفال السنوي في منطقة هاينزبيرج في ذات الولاية والتي شكلت البداية الحقيقية لإنتشار الفيروس في باقي أنحاء الجمهورية الإتحادية .

 

وفي ظل الإنتشارالسريع للفيروس وتغلغله في القارة الأوروبية سارعت الحكومة الألمانية يوم 27 فبراير 2020 إلى شد الأحزمة وتشكيل فريق فيدرالي لإدارة الأزمة اتخذ بالتنسيق والتعاون مع رؤساء حكومات الولايات العديد من القرارات والتوصيات المهمة للسيطرة على الوباء، وشأنها شأن العديد من الدول اعتمدت المانيا في البداية مبدأ مراقبة المرض ومحاولة إحتوائه من خلال إتخاذها بعض الإجراءات الوقائية والتدابير الإحترازية وإصدار التعليمات والنصائح دون اللجوء الى فرض القيود والإغلاقات . إلا أن هذه السياسة لم تؤتي أوكلها أمام الإرتفاع الشديد في أعداد الإصابات وزيادة الوفيات لدى كبار السن فتم تشديد القيود والإنتقال إلى مرحلة الإغلاقات والتي تمثلت بإغلاق المدارس والجامعات والحدود ومنع التجمعات السكانية إلى أن تمكنت من تبطيء إنتشار الفيروس وإحداث تراجع في معدل تكاثره الأساسي من 3 الى 0,7 الأمر الذي شجع وزير الصحة ينس شبان على أن يعلن يوم 17 أبريل 2020 عن تمكن المانيا من سيطرتها على الوباء.

إلا أنه ومع مرور الوقت وفي ظل اكتشاف بؤرعدوى متفرقة وعدم وجود لقاح فعال أو دواء مضاد للفيروس أدركت المانيا أنه من الصعب القضاء على الوباء نهائيا وانتقلت بصورة غير معلنة إلى مرحلة التعايش مع الفيروس على قاعدة السيطرة عليه لا أن يسيطرعليها وتقليل أضراره قدرالمستطاع وبدأت يوم 06 مايو 2020 بتخفيف الإجراءات والقيود التي فرضتها على السكان والعودة الى الحياة الطبيعية بالتدريج ضمن شروط ومعطيات أهمها الإلتزام بإجراءات الوقاية من قبل الشعب وبقاء معدل إنتشار الفيروس منخفض وقدرة النظام الصحي على التعامل مع الإصابات وتتبع المخالطين عبر أنظمة اكتشاف مبكرة.

إرتباك في الأيام الأولى للوباء

بالرغم من أن الفيروس لم يباغت المانيا زمانيا بسبب سبق تفشيه في دول أخرى مثل إيطاليا وفرنسا والصين الأمر الذي جعلها مهيئة لوجستيا لوضع الخطط اللازمة لإدارة الأزمة لاحقا إلا أن الأيام الأولى للجائحة لم تكن لتوحي بذلك بل على النقيض كانت الجمهورية الإتحادية في وضع لا تحسد عليه بسبب معاناتها من نقص شديد في مستلزمات الحماية مثل الأقنعة والألبسة والمعقمات الأمرالذي أربك النظام الصحي وأقدمت على إثره عشرات عيادات طب الأسرة إلى أغلاق أبوابها والإمتناع عن العمل فيما تظاهر العديد من الأطباء والعاملين في المجال الصحي وقاموا بنشر صورهم وهم عراة على شبكات الإنترنت في إشارة رمزية واحتجاجية على عدم توفر مستلزمات الحماية الشخصية وعلى رأسها الكمامات والتي كانت أشد ندرة من ورق التواليت الذي فرغت منه رفوف المحلات التجارية في غالبية المدن الألمانية في الأيام الأولى للجائحة في بلد يمثل أكبر قوة صناعية في اوروبا كما وسجلت مستشفيات عديدة حالات سرقة غير معهودة من مخازنها لكميات من الكمامات ومواد التعقيم .

 

ومن أجل فكفكة تلك الأزمة نشطت الدبلوماسية الألمانية مستعينة بهيئة المشتريات التابعة للجيش الألماني لتوفير تلك المستلزمات من بعض الدول الأسيوية والأفريقية إلا أن الأمرلم يكن سهلا حيث اتهمت المانيا الولايات المتحدة الأمريكية بالقرصنة بسبب سرقتها لشحنة كبيرة من الكمامات كانت متجهة في طريقها من الصين الى برلين فيما أعلن عن إختفاء شحنة أخرى تحتوي على 6 مليون كمامة كانت في طريقها من كينيا الى المانيا .

 

ولذات الهدف غيرت العديد من شركات صناعة السيارات والمعدات الثقيلة الألمانية من خطوط إنتاجها من أجل تلبية إحتياجات الحكومة من المعدات والمستلزمات الطبية وعلى رأسها أجهزة التنفس الصناعي فيما بادرت مصانع الخياطة والكثير من مؤسسات المجتمع المدني إلى حياكة وإنتاج أكبر قدر ممكن من الكمامات الطبية . ولحسن الحظ لم تكن حاجة عموم أفراد الشعب للكمامات في بدايات الجائحة كبيرة جدا كما هو الأمر للعاملين في القطاع الصحي وفئات المرضى الأكثر عرضة للمضاعفات الخطيرة وذلك بسبب أن فرض إرتدائها على عموم السكان جاء متأخرا في نهاية شهرأبريل أي بعدما خفت فوعة إنتشار الفيروس وحصلت إنفراجة على المستوى الدولي في توفير تلك المستلزمات.

عوامل النجاح:

لم يكن تفوق التجربة الألمانية في التعامل مع أزمة الوباء يعتمد على عامل بذاته بل تضافرت فيه مجموعة من النجاحات والجهود نستعرضها في النقاط العشرالتالية:

1ـ الإنضباط والإلتزام الجاد من الشعب.. سر النجاح الأول  

يعتبرتضافروتناغم جهود الحكومة والشعب معا في مكافحة الوباء أحد أهم عناصر نجاح التجربة الألمانية فلا يمكن لأي دولة مهما كانت قوية أن تنجح في إدارة أزمة كهذه دون تعاون مثمر بينها وبين شعبها خاصة أن الأمر يتعلق بسلوكيات تربوية والتزامات شخصية من أفراد المجتمع ولذا حرصت الحكومة الألمانية منذ البداية على الشفافية والمصارحة مع مواطنيها وراهنت على وعيهم وإدراكهم لخطورة الأزمة والتزامهم بإجراءات الوقاية والتدابير الإحترازية وقد كسبت هذا الرهان حيث أخد الشعب زمام المبادرة وبدأ في تطبيق تلك الإجراءات على أكمل وجه وبنسبة التزام عالية جدا.

 

فدورالوزارت ورؤساء حكومات الولايات وفريق إدارة الأزمة كان يتمثل بتمريرالأوامر والتعليمات الى المواطنين عبر وسائل الإعلام والعناوين الحكومية المختلفة فيما كانت مؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص وكل مرافق الدولة تقوم بدورها بتطبيق تلك التعليمات بتلقائية وبمبادرات ذاتية وتناغم تام كمن يضع عجلة القطارعلى السكة ويستمر التحرك بعدها بقوة الدفع الذاتي. وأضحى المواطن باتباعه الرقابة الذاتية في تنفيذ الإجراءات الوقائية دون أن يتم فرضها عليه أو إرغامه بها بالقوة أو الإكراه شريكا مهما في مكافحة الوباء .

 

فيما تفاعل المواطنون مع الأمر بجدية تامة وبذلوا كل ما يلزم لذلك من نفقات مالية من جيوبهم الخاصة حيث أن كل بيت لديه كمامات ومواد تعقيم كافية يستخدمها أينما ذهب خارج المنزل وفي المقابل قلما تجد متجرا أو مقها أو شركة أو مصنع أو عيادة صحية تخلو من لوحات تحض على لبس الكمامة وإتباع تعليمات التباعد الجسدي إضافة الى وضع لوحدات بلاستيكية كحواجز تحول بين العاملين في المحلات التجارية والزبائن فضلا عن توفير مواد التعقيم على مداخل تلك المحلات وتوفير موظفين ينظمون دخول وخروج الزبائن وفق عدد محدد يتناسب مع حجم المحل بحيث إذا زاد العدد عن المسموح به يتم إيقاف الدخول اليه كما ويراقبون مدى إلتزام الزبائن بلبس الكمامة وتجنب الإختلاط ومن يخالف يمنع من دخول المحل.

ولا يتردد المواطن العادي بممارسة حقه ودوره في التوعية والإرشاد عبر الطلب من أي شخص في أي مكان كان سواء أمامه أو خلفه بأن يرتدي كمامته جيدا ويبتعد عنه إن كان ملاصقا له فيما كانت الشرطة وموظفي مكاتب النظام العام يقومون بواجبهم بهدوء عبر تحرير المخالفات وفرض الغرامات المالية بحق المخالفين إن اقتضى الأمرالى ذلك.

 

2ـ خطة ومرجعية مركزية.. بقيادة معهد روبرت كوخ

أعلنت المانيا منذ بدايات الجائحة عن خطة شاملة أطلقت عليها ,, الخطة الوطنية لمكافحة الوباء,, ووضعت لها أربعة أهداف رئيسة تمثلت بتقليل عدد الإصابات والوفيات الناجمة عن المرض وتوفير العلاج للأشخاص المصابين وضمان الخدمات الأساسية في البلد وتوفير المعلومات الدقيقة لصناع القرار ووسائل الإعلام، كما واعتمدت لتنفيذها على المراحل الثلاث المتعارف عليها دوليا للسيطرة على الأوبئة وهي الإحتواء والحماية والكبح ويقصد به احتواء انتشار المرض عبر الإكتشاف السريع للأشخاص المصابين وتتبع المخالطين وكسر سلاسل العدوى والتي تهدف الى تبطيئ انتشار المرض وكسب الوقت حتى تكون على درجة عالية من التحضير والجهوزية للتعامل مع الوباء وتعزيز القدرة العلاجية للمستشفيات والمراكز الطبية وتوفير مستلزمات الحماية للمجموعات الأكثر عرضة للخطر فضلا عن تطوير أدوية ولقاحات مضادرة للفيروس.

 

وفي حال لم يعد من الممكن ـ وهو ما حصل بالفعل ـ إيقاف إنتشار الفيروس ووجود صعوبة في معرفة المصابين وتتبع المخالطين تنتقل إلى المرحلة الثانية وهي مرحلة الحماية والتي تتلخص بالتركيز على توفير الحماية للفئات الضعيفة والأكثر عرضة للمضاعفات الخطرة للمرض، وفي حال الاستمرار بزيادة تفشي المرض يتم الانتقال الى المرحلة الثالثة وهي مرحلة الكبح أو التخفيف والتي يقصد بها كبح وتخفيف أي مضاعفات اخرى ممكن أن تؤثر على النظام الصحي وعلى سير الحياة العامة للمجتمع مثلا عبر توفير المزيد من أجهزة التنفس الصناعي للمستشفيات .

 

ويعتبر معهد روبرت كوخ الحكومي المتخصص في التعامل مع الأوبئة المشرف الأول على الخطة و المرجعية الصحية المركزية رقم واحد في التعامل مع الوباء حيث تستمد غالبية العاملين في القطاع الصحي وأعضاء الحكومة الألمانية بما فيهم المستشارة ميركل المعلومات والإحصائيات الخاصة بالأزمة منه، وقد تصدر المعهد مشهد الأحداث عبر توثيقه اليومي لتطورات الوباء وتقييم مخاطره وتحديد التدابير اللازمة لعلاجه من خلال عقده لمؤتمرات صحفية يومية سرد فيها أعداد الإصابات والوفيات وشرح المستجدات فضلا عن إصداره للتعليمات والتوجيهات والتوصيات من خلال رسائل وتقارير ولوغاريتميات خاصة بالتشخيص والعلاج والوقاية وتحديد مناطق الخطر الجغرافية في الداخل الألماني وعلى المستوى الدولي ضمن إحصائيات ودراسات علمية .

3. الفحوصات الإستباقية لإكتشاف المرض وتعقب المخالطين

أدركت المانيا أن خطورة الفيروس تكمن في سرعة إنتشاره أكثر من قدرته على الفتك وإحداث الوفيات دون التقليل من أهمية ذلك. الأمر الذي من شأنه حال تحققه أن يشل المنظومة الصحية ويؤدي إلى إنهيارها نتيجة إكتظاظ المرضى في المستشفيات والمراكز الصحية وتعطيلها عن القيام بدورها فضلا عن انهيار الخدمات العامة للمواطنين بسبب المرض الجماعي، وعلى هذا الأساس بدأت بتنفيذ المرحلة الأولى من خطتها المركزية والقاضية ببذل كل جهد ممكن لإحتواء الوباء من خلال التركيز على إجراء الفحوصات الإستباقية لإكتشاف الحالات المصابة بسرعة وتتبع المخالطين ووضعهم في الحجر الصحي والإبقاء على سلاسل عدوى قصيرة والحد من تشكيل عناقيد من الإصابات التي يصعب تتبعها .

 

ومقارنة مع العديد من دول العالم تميزت المانيا بسخائها في إجراء الفحوصات المخبرية والتي وصل عددها في ذروة الوباء إلى نصف مليون فحص ولم تجر تلك الفحوصات كما يتصورالبعض لعامة الناس أو بصورة عفوية بل ضمن شروط وضوابط جرى تحديثها بإستمرار من قبل معهد روبرت كوخ والمؤسسات الصحية. نقابات الأطباء والبلديات ومكاتب الصحة المحلية هيأت بدورها كافة الإمكانيات المتاحة لإجراء الفحوصات من خلال مراكز متنقلة ومتخصصة في ذلك أقيمت داخل المدارس والملاعب وساحات المعارض فيما قدمت خدمة فحص المرضى الذين ليس لديهم المقدرة للتوجه إلى تلك المراكز عبر إرسال الموظفين لأخذ المسحات المخبرية من بيوتهم ولتقليل العدوى وفرت إمكانية إجراء الفحوصات للمرضى وهم داخل سياراتهم ـ درايف إن ـ عبر مروروهم أمام خيام أقيمت خصيصا لذلك في الساحات المفتوحة.

 

وللحد من تكدس المرضى منع من إجراء الفحوصات في تلك المراكز إلا بمواعيد مسبقه من قبل طبيب الأسرة أو مكاتب الصحة المحلية الذين يقومون بتسجيل وإرسال أسماء من يرغبوا بعمل الفحوصات لهم، وبعد تحديد ومعرفة المصابين أوكلت إلى مكاتب الصحة المحلية الموجودة في كافة أنحاء الجمهورية والبالغ عددها 400 مكتب مهمة التعرف على خريطة انتشار الوباء وتعقب المخالطين ومعرفة أحوالهم الصحية والتواصل مع ذوي الإصابات الخفيفة الذين يتعالجون في البيوت ويشكلون 80% من إجمالي العدد العام للإصابات حتى انتهاء فترة الحجر الصحي والشفاء التام.

 

وللمحافظة على الكوادر الطبية ومنع الإختلاط مع باقي أفراد المجتمع أثناء فترات العلاج والحجر الصحي تقرر إعطاء إجازة مرضية لمن يرغب من المرضى العاملين والموظفين عبرالهاتف لمدد تصل إلى إسبوعين كاملين دون الحاجة للتوجه إلى الطبيب بحيث يتم إرسالها لهم عبر البريد وذات الأمر انطبق أيضا على كل ما يحتاجه المرضى من أدوية ومستلزمات طبية فيما قدمت الصيديات خدمة إيصال الأدوية إلى البيوت، وإضافة إلى موظفي الصحة العامة لعب أطباء الأسرة الموجودين في كافة المدن الألمانية والذين يبلغ تعدادهم حوالي 45 ألف طبيب وطبية دورا مهما ومساندا في متابعة المرضى ورعايتهم عبرالتيلي ميديسن من خلال الهاتف والفيديو من خلال توجيه النصائح والإرشادات لهم حول كيفية التعامل مع المرض ومضاعفاته كما وإستحدثت الدولة تطبيقا ذكيا عبرالهاتف أعتبر كإنذار مبكر لتجنب المصابين وتتبع المخالطين.

4ـ نظام صحي قوي ومتطور

لعب النظام الصحي الألماني أثناء الجائحة دورا مهما في ضمان تقديم الخدمات الصحية على أكمل وجه وحافظ عليها من الإنهيارخاصة أنه يعتبر من أقوى الأنظمة في العالم وأكثرها تطورا من خلال إمتلاكه لجيش أبيض يبلغ تعداده حوالي نصف مليون طبيب وطبيبة وأسطول كبير من المستشفيات تعداده 1927 مستشفى بسعة نصف مليون سرير كما لديه عدد كبير من أسرة ووحدات العناية المكثفة بلغت 28 ألف سرير تم زيادتها مع بداية الجائحة لتصل إلى 40 ألف سرير وهو العدد الأكبر في القارة الأوروبية إذا ما قورن مع إيطاليا التي تمتلك 5179 سرير وفرنسا 5 الاف سرير واسبانيا 3363 سرير فقط .الأمر الذي لعب دورا أساسيا في الحفاظ على أرواح الالاف من المرضى ذوي الحالات الخطرة .

 

كما ولديه شبكة قوية من عيادات الأطباء العاملين خارج المستشفيات يبلغ عددها 101932 عيادة تقدم الرعاية الأولية والتخصصية للمرضى على حد سواء ويبلغ عدد العاملين فيها من الأطباء 172647 طبيب وطبيبة كما ويتمتع النظام الصحي الألماني بشبكة متطورة وكبيرة من المختبرات الحديثة فضلا عن نظام تأمين صحي شامل ومتين يغطي كافة إحتياجات المواطنين من خدمات ورعاية صحية.

 

5ـ تقديم الخدمات للمرضى دون إستنزاف النظام الصحي

ركزت المانيا على تجنب إجهاد واستنزاف طاقات المستشفيات والعيادات والمراكز الطبية وإبقائها في حالة إستعداد وجهوزية تامة تحسبا لأي طارئ ممكن أن يحدث ووضعت الخطط لذلك حيث قامت بإلغاء برامج العمليات الجراحية والحالات المرضية الغير طارئة والفحوصات التشخيصية الروتينية في كافة المستشفيات واستثنت من ذلك الحالات المتوسطة والصعبة من مرضى كوفيد 19، كما قامت بمنع الزوار والمرافقين من دخول المستشفيات ووفرت وحدات إسعاف خاصة لنقل الحالات التي يشك بإصابتها بالمرض ونصبت خياما أمام المستشفيات والمرافق الطبية لتقييم حالة أي مريض يصل إليها وفرزها ومعرفة إن كان بحاجة إلى الدخول أم لا .

 

كما واستحدثت خط ساخن مركزي للمواطنين في جميع أنحاء الجمهورية بهدف تقديم الإستعلامات والإرشادت حول العلاج والتشخيص دون الحاجة للخروج من البيوت، كل تلك الإجراءات خففت العبء عن المستشفيات وعن كاهل الكوادر الطبية وجعلتها تعمل في أريحية وبدون أي إرتباك وأحدث فائضا بنسبة 45% من أسؤرة العناية المكثفة، وحتى في ذروة إنتشارالوباء كان هناك 45% من أسرة العناية المكثفة الأمر الذي شجع الدولة على تقديم يد العون والتضامن مع دول الجوار حيث تم احضار وعلاج عشرات الحالات الخطرة من فرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا.

6ـ عزل الفئات الأكثر عرضه للخطر والمحافظة عليها

حيث قامت الدولة بإغلاق مراكز الرعاية الصحية ودور المسنين إغلاقا كاملا وشددت الرقابة عليها وحولتها إلى ما يشبه الثكنات العسكرية حيث منعت ذوي المرضى من الزيارات نهائيا وفرضت على ما عداهم من القادمين لتلك المراكز تسجيل أسماءهم وعناوينهم وأرقام هواتفهم في كل زيارة يقومون بها بهدف تتبعهم في حال ظهور أي عدوى جديدة، من جهة أخرى أبدى المرصى من ذوي الفئات الأكثر عرضه للخطر التزاما جديا بالإجراءات الوقائية والتدابير الإحترازية واتباعهم سياسية الحجر الذاتي الإختياري حيث التزموا بيوتهم وألغوا أي مواعيد طبية غير طارئة وبقي التواصل الطبي معهم محصورا فقط من قبل أطباء الأسرة عبر التيلي ميديسن.

 

7ـ قطع سلاسل العدوى الكبيرة السوبر سبريدرز والهوت سبوتس

أدركت المانيا وإن كان بصورة متأخرة أن سر تفشي الفيروس وإنتشاره يكمن بأن 10 إلى 20 % من المصابين هم من يقوموا بنشر العدوى إلى ال 80 % الاخرين وأنه ليس بالضرورة أن يقوم كل شخص مصاب بنشر العدوى للأخرين إذا ما التزم بإجراءات الوقاية وبقي في منزله. ولذلك ركزت في تتبعها للمخالطين على هذا النوع من ناقلي العدوى والذي بات يعرف بالسوبرسبريدرز وكذلك على المناطق التي ينتشر فيها الفيروس بقوة ـ الهوت سبوتس ـ أو بؤر العدوى ووجدت أن شخص واحد أو مكان ما ممكن أن ينقل العدوى الى عشرات بل مئات الأشخاص ولذا سارعت بتعقب اولئك الأشخاص والبؤر والأمكنة من البداية حتى النهاية وعزلهم عزلا تاما وفرض الإغلاق التام عليها وقطع سلسلة العدوى من جذرها للحول دون إنتقال المرض لمناطق جغرافية.

 

8ـ الإدارة الحكيمة للأزمة  

كونت الحكومة الألماني مجلسين لإدارة الأزمة وهما مجلس كورنا المصغر والذي يضم في عضويته كل من وزراء المالية والداخلية والصحة والخارجية والدفاع ومجلس كورونا الموسع والذي يضم إلى جانب أعضاء المجلس المصغر مجموعة أخرى من الوزراء المتابعين لملفات لها علاقة بالأزمة ويعمل كلا المجلسين على تقييم الوضع دوريا وتحديد خطوط العمل الرئيسية ومراقبة معايير النجاح فيما يتولى فريق إدارة الأزمة الفيدرالي مهمة تنفيذ قرارات المجلسين ومتابعة الملفات التشغيلية فورا بناء مضامين على الخطة الوطنية لمكافحة الوباء.

 

وفي حقيقة الواقع لم تكن تلك المجالس لوحدها في الميدان بل بادرت غالبية الوزارات والمدن والقرى ومؤسسات المجتمع المدني الى تكوين خلايا طوارئ وفرق أزمات حيث أضحت الدولة كلها في حالة إستنفار وطوارئ غير معلنة تعمل كخلية نحل وتشارك في إدارة الأزمة بكل هدوء حيث وضعت الخطط واللوائح والتعليمات واللوغاريتميات حول كيفية التعامل مع الوباء ووزعتها على كل مرافق الدولة بدءا من العيادات والمراكز الصحية ومرورا بالجامعات والمدارس ورياض الأطفال وانتهاءا بمحلات الحلاقة والمصانع والشركات، ويحسب لفريق إدارة الأزمة تخطيطه المحكم وبعده عن ردود الأفعال حيث ظهر ذلك جليا في طريقة فرضه للقيود والإغلاقات حيث فرضها بصورة تدريجية دون التسبب بإحداث أي خوف أو هلع لدى السكان كما حصل في بعض دول العالم.

وعندما تم رفعها رفعت أيضا بضورة تدريجية حتى يتكيف الناس مع التطورات الجديدة دون حدوث إنفلات في التواصل والاختلاط فيما بينهم وهو ما سمي بالانفتاح الذكي، ويرجع الفضل في الإدارة الحكيمة للأزمة الى المستشارة أنجيلا ميركل والتي يعرف عنها حنكتها وخبرتها في إدارة الأزمات حيث لم يظهر عليها أي تذمر أو تخبط في إتخاذ القرارات واثرت كعادتها الهدوء وتقديم المعلومات والحقائق دون تهويل وأشادت بالنظام الصحي الالماني دون غطرسة أو غرور، كما ويعرف عنها الأسلوب التوافقي في القيادة ولذا أشركت الجميع حكومة ومعارضة في صنع القرار وقدمت مصالح الوطن على أي اعتبارات أخرى ولم توظف الأزمة لصالحها سياسيا.

 

9ـ معالجة الأزمة الصحية والإقتصادية في أن واحد

يحسب لألمانيا أنها كانت من الدول القليلة التي سارعت إلى مكافحة الوباء وتقديم حلول للأزمة الاقتصادية الناتجة عنه في أن واحد، فمنذ اللحظات الأولى لفرض القيود والإغلاقات وقبل أن تكون الأزمة قد نشبت أظفارها في الحياة العامة قامت بضخ أموال كبيرة وبسرعة لاحتواء أي تداعيات اقتصادية بمعنى أنها كانت تقبض بيد وتبسط بالأخرى في ان واحد حيث أعلنت عن تكفلها بتعويض أي خسائر اقتصادية ناجمة عن الوباء وقدمت أكبر حزمة من المساعدات المالية في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية لحماية صحة المواطنين ودعم الوظائف والشركات والحفاظ على التمساك الاجتماعي بلغ مجموعها 353 مليار يورو وضمانات مالية قدرت ب 820 مليار يورو كان نصيب القطاع الصحي منها 3,5 مليار لتوفير المستلزمات الطبية وتصنيع اللقاح و55 مليار لمكافحة الوباء وتعويض المستشفيات والأطباء العاملين في العيادات من أي خسائر قد تنجم عن الوباء.كما واعلنت عن تقديم مساعدة للمستشفيات مقدارها 50 ألف يورو مقابل كل سرير عناية إضافي يتم توفيره فيها كما وأنشأت صندوقًا للاستقرار الاقتصادي بقيمة 500 مليار يورو، يستهدف بشكل خاص الشركات الكبيرة.

 

وفي الوقت الذي تفكر فيه دول أوروبية اخرى مثل اسبانيا برفع قيمة الضرائب قامت المانيا بتخفيض ضريبة القيمة المضافة بنسبة ثلاثة في المائة لمدة ستة شهور كاملة كما وقدمت هدية مقدارها 300 يورو لكل طفل، الإعلان عن المساعدات والحلول الإقتصادية في الوقت المناسب وفي عز ذروة الوباء أعتبر رسائل طمأنة للداخل الألماني هدفت إلى سحب الخوف والتذمر من أي أضرار إقتصادية محتملة الأمر الذي عزز ثقة الشعب بالحكومة وزاد من التزامه وتفاعله الإيجابي مع تطبيق الإجراءات الوقائية، ولم يقتصر الوقوف مع الشعب على المساعدات الإقتصادية فحسب بل قامت الحكومة الألمانية بأكبر عملية إجلاء في تاريخها لرعاياها من السياح الموجودين حول العالم حيث أعادت عبر جسر جوي أقامته بالتعاون مع سلاح الجو الألماني خلال خمسة أسابيع ربع مليون مواطن الماني الى بيوتهم بتكلفة قدرها 50 مليون يورو.

 

10ـ استدعاء وحدات من الجيش للمساعدة في السيطرة على الوباء

انتبهت الحكومة الألمانية منذ بداية الجائحة الى أن الأزمة كبيرة وتتعدى قدرات وإمكانيات النظام الصحي ومؤسسات المجتمع المدني لوحدها ولذا سارعت إلى الإستعانة بالجيش لمساندتها في إنجاز العديد من المهمات والقضايا اللوجستية حيث أعلنت وزارة الدفاع عن تسجيل أكثر من 32 ألف من جنود وضباط الاحتياط ليكونوا على أهبة الاستعداد للتدخل السريع من أجل دعم ومساعدة الولايات والبلديات حال خرجت الأمور عن السيطرة كما وتم تجهيز وحدة سميت ـ وحدة مساعدة كورونا ـ تضم أكثر من 17 الف رجل وامرأة من الخدمات الطبية التابعة للقوات المسلحة لذات الهدف.

ومن أهم المهام التي أوكلت للجيش إنشاء مستشفيات ميدانية ووحدات طبية متنقلة وحماية المستودعات الطبية والمساعدة في رعاية دورالمسنين وتوزيع معدات الحماية الطبية وتقديم المشورة في المجال الطبي كمستشارين لفرق الأزمات في المقاطعات والمدن المختلفة، كما ولعب سلاح الجو الألماني دورا مهما في نقل عشرات المرضى من الدول الأوروبية الى المانيا عبر الإسعاف الطائر فضلا عن مشاركته في عملية إجلاء الرعايا الألمان حول العالم وإعادتهم الى بيوتهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.