شعار قسم مدونات

أبو عبدالله الصغير.. آخر ملوك الأندلس

على تلة تطل على أراضي غرناطة وقف أبو عبدالله الصغير، بعد تسليم غرناطة، يبكي ليسمع أمه الأميرة عائشة الحرة تقول: ابكِ كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال، دخل أبو عبدالله الصغير التاريخ بهذه الحكاية، التي لم يتم إثبات وقوعها، بل على الأرجح تم تلفيقها، على يد المؤرخ والفيلسوف الإسباني أنطونيو دي جيبارا، الذي يعتبر الأب الروحي لفكرة تفوق العرق الأوروبي، وتطهير اسبانيا من كل ما هو غير مسيحي. والذي أثبت فعلاً وليس قولاً، بأن التاريخ يكتبه المنتصرون.

 

أحاول من خلال هذا المقال، إنصاف أبو عبد الله الصغير، بالرجوع إلى الأحداث التي دفعت به مرغماً ليكون آخر ملوك الأندلس، وليحمل عار انتهاء الدولة الإسلامية هناك، حتى بعد وفاته بمئات السنين. إن تاريخ سقوط الأندلس وأسباب هذا السقوط، أعمق بكثير من البكائيات والتفسيرات التي قدمها المؤرخون. فقد كان للفساد الأخلاقي، وحياة الدعة والترف التي عاشها ملوك الاندلس في اخر عهدها، بالإضافة إلى الفُرقة والتنازع فيما بينهم على الحكم، وتقسيم دولة الأندلس الواحدة إلى عشرات الإمارات، ودخولها عصر ملوك الطوائف، السبب المباشر في انتهاء الدولة الإسلامية في الأندلس.

 

وبالعودة إلى أبو عبد الله الصغير، فاسمه محمد بن علي بن سعد من بني الأحمر، الذي لقبه الإسبان بالصغير ولقبه العرب بالزغبي أي المشؤوم، وقد ولد في عام 1460. في عصر كانت فيه معظم الإمارات الاندلسية قد سقطت في أيدي الإسبان، وفي عائلة تعمها المكائد والدسائس، والصراع والنزاع على الحكم، كان لوالده أبو الحسن زوجة ولدت مسيحية، قبل أن تعلن إسلامها وهي بعمر الثانية عشرة (عادت للمسيحية بعد سقوط غرناطة)، انجبت لوالده عدد من الأولاد، وأرادت أن تستأثر لأحدهم بولاية العهد من بعد أبيه، فدارت صراعات بينها وبين الأميرة عائشة أم أبي عبدالله، والتي نجحت بمعاونة عدد من رجال الدولة، بالانقلاب على أبي الحسن، ووضع ولدها أبي عبدالله الصغير على العرش، وكان ذلك في عام 1482. وهكذا فإنَّ أبي عبدالله الصغير كان قد استلم، منذ البداية، إمارة مشتتة، ومقطعة الأوصال، ومهزوزة الأركان.

ومن سوء حظه، أن تم زواج الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيزابيلا، ملكي قشتالة وأرجون، بعد توليه الحكم مباشرة، واللذان عقدا العزم على الاستيلاء على آخر معاقل الأندلس، غرناطة وملقا، التي كانت ما تزال تحت حكم عمه أبو عبدالله محمد الزغل، في ما كان يطلق عليه الإسبان بحرب الاستعادة، دارت معارك بين غرناطة وقشتالة، نتج عنها أسر أبو عبدالله في عام 1483، وبقي في الأسر لعامين، إلى أن تم إطلاق سراحه مقابل شروط قاسية، تجبره على دفع جزية سنوية باهظة، بالإضافة للخضوع لقشتالة.

 

عندما خرج من الأسر وجد كل من أبيه وعمه يتنازعان حكم غرناطة، بعد أن خسر عمه ملقا هي الأخرى لصالح الإسبان، ولم يتبقَ إلا غرناطة، تخضع لحكم المسلمين في ذلك الوقت. فدخل معهما في حرب أهلية على الحكم، حتى استطاع انتزاع غرناطة للمرة الثانية واستلم الإمارة في عام 1486.

 

في هذه الأثناء، كانت حروب الاسترداد التي يشنها فرناندو وإيزابيلا، والتي بدأت منذ عام 1482، مستمرة في محاولة لاحتلال غرناطة. وفي عام 1489، طالب الملكين فرناندو وإيزابيلا أبو عبدالله بتسليم غرناطة سلمياً، ورغم ضعف إمكانياته رفض الاستسلام، فدخل في حروب مع قشتالة وأراجون، قادها بطل مسلم شجاع أهمله المؤرخون، كان له الفضل في صمود غرناطة، وتأخير سقوطها، وهو موسى بن أبي غسان.

 

استمرت هذه المعارك بين الجانبين طويلاً، وقام أبو عبدالله بطلب المعونة والامدادات من الولايات الاسلامية في إفريقيا، التي لم تتجاوب معه، بسبب انشغالها في معاركها الخاصة، إلى أن وقعت غرناطة تحت الحصار، عندما أطبق عليها الإسبان براً وبحراً، وقطعوا مضيق جبل طارق، فقطعت غرناطة كل أمل في الإمدادات أو المعونة.

 

في هذه الأثناء أطبق الحصار والجوع والمرض على غرناطة وأهلها، فتعالت الأصوات التي تدعو لتسليم غرناطة، لكن موسى بن أبي غسان أصر على مواصلة القتال، وقام بجمع كل من يستطيع من مشاة وفرسان، وحاول كسر الحصار، في معارك دموية، ولكن ضعف العتاد والمؤن، أدى إلى انهيار صفوف الجنود المسلمين، فعادوا بائسين مخذولين إلى داخل غرناطة، التي اصبحت محاطة بالأعداء من كل الجهات، ودب اليأس والقنوط في قلوب الجميع.

عادت الأصوات المطالبة بالتسليم، والتي وقف ضدها بكل قوته موسى بن أبي غسان والأميرة عائشة الحرة، وفي هذا الوقت كان لا بد لأبي عبدالله أن يتخذ القرار الأصعب، حيث كان الاستمرار في الدفاع عن المدينة ضرباً من التهور، وبلا جدوى. فاختار أن يضحي بسمعته، من أجل انقاذ شعبه من مذبحة محتملة، ومن الجوع والمرض الذي فتك بهم. وبعد حصار دام سبعة أشهر، وفي الثاني من كانون الثاني عام 1492، دخل الإسبان إلى غرناطة، وتم توقيع معاهدة تسليم في قصر الحمراء المكونة من ستين بنداً، تنص على تسليم المدينة وتسريح الجيش ومصادرة السلاح، مقابل الحفاظ على أرواح وأموال المسلمين. إلا أن محاكم التفتيش تشهد على من خان المعاهدة وخان غرناطة، ولم يكن أبا عبدالله الصغير بكل تأكيد.

 

لم يكن تسليم مفاتيح غرناطة سهلاً على أميرها وأهلها، فقد تعالت أصوات البكاء والعويل، عند استلامها من قبل الملكين الكاثوليكيين. أما موسى بن أبي غسان فقد تضاربت الروايات حول نهايته، منها من يقول انه بعد أن رأى تسليم مفاتيح غرناطة، ذهب لمنزله فارتدى ملابس الحرب، وامتطى جواده ولم يره أحد بعد ذلك، وهناك رواية تقول بأنه بعد أن امتطى جواده، واجه سرية جنود إسبان، قاتلها وحيداً حتى قتل.

 

أما أبو عبدالله الصغير، فقد أقام لمدة سنة في البشارات القريبة من غرناطة، لكن هذا لم يرق لملكي قشتالة والاراجون اللذين خشيا من أن بقاءه قد يدفع المسلمين للقيام بثورات، أو محاولة إعادة السيطرة على أجزاء من الأندلس، فتعاونا مع وزيره وصديقه الخائن ابن كماشة، من أجل طرد أبو عبدالله، من إسبانيا نهائياً، والاستيلاء على ممتلكاته.

 

غادر أبو عبدالله على أثر هذه الخيانة بلاد الأندلس، وقضى ما بقي من حياته في فاس بالمغرب، مجهولاً مغموراً، موصوماً بالخيانة، حتى مات عن عمر الخمسة وسبعين عاماً.

 

إن الأندلس لم تنتهِ بسقوط غرناطة، لقد انتهت قبل ذلك بوقت طويل، لكن كان قدر آخر ملوكها أبي عبدالله الصغير، أن يستسلم لقوة عسكرية مسيحية، لا يستهان بها، رافضة لكل ما هو غير مسيحي، فأصبح في نظر التاريخ خائناً ملعوناً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.