شعار قسم مدونات

علامات تجارية تقتحم التعليم والطفولة والعبادة والوعظ

لن تتردّد السُّوق في تحويل بعض مرافق التّعليم والرِّعاية، وحتى فضاءات العبادة ذاتها أحياناً، إلى "سوبر ماركت" أو "مركز تسوُّق" بعلامات ضوئيّة تخطف الأبصار؛ إن مُكِّنت من ذلك بلا ضوابط. قد يبدأ الأمر مع ثلاّجة لبيع المشروبات الغازيّة في فناء مدرسة تُشِعّ على الأجيال الصاعدة برسائلها البصرية الملوّنة وإيحاءاتها المحبوكة، أو بواجهة مَقْصَف تعلوه علامات ترويجيّة، كما قد تلجأ الشّركات الكبرى إلى التمكين لعلاماتها ومنتجاتها في المدارس بذريعة منح الدّعم أو "الرِّعايات" فتقتحم الفضاء المدرسي بإغراءات تمويليّة. إنه رهان السُّوق على كسب الأجيال الجديدة وربطها برموزها البصرية وعلاماتها التجارية منذ الصِّغَر.

 

تتورّط محطات التلفزة الموجّهة إلى الأطفال في هذا المنحى بوضوح؛ وتحديداً ما يتبع منها القطاع الخاصّ. تقتحم الفواصل الدعائية برامج الأطفال الذين لا يملّون من تكرارها، فتصير مضامينُها البهيجة محفوظاتٍ مطبوعة في وجدانهم وأذهانهم، بما يستدرجهم إلى طلب سلع ومنتجات لا مصلحة لهم في اقتناء كثير منها. يتوالى قصف الأطفال بهذه الرسائل الترويجية المحبوكة التي لا تقابلها مضادات دفاعية في هذا السنّ قادرة على تمحيص التدفّقات المشبّعة بالمؤثِّرات. تسطو السوق على شخصيات برامج الأطفال الصاعدة في كلّ موسم وتستغلّها في الترويج على الشّاشة وفي المتاجر، فتضطلع شخصيات الرسوم المتحركة، مثلاً، بدور قادة الرأي الذين تستصحبهم الإعلانات الترويجية الموجّهة للكبار. الفارق في هذا الشأن أنّ التصاق الأطفال بشخصيات افتراضية إلى حدّ التقمّص الحالم أدْعى إلى توجيههم بلا مقاومة نحو أولويّات السوق.

 

تربِّي السوق الأجيال الجديدة على الثقافة الاستهلاكية مُستعملةً حِيَلاً شتى، دون أن يفطن الأهالي غالباً إلى ما يفعله هذا الإغراق بأطفالهم، وقد لا يجدون فكاكاً من هذا الإغراق الذي يستولي على الأجيال الجديدة. لا تعمل الحالة في اتجاه أحاديّ؛ فالصناعة الإعلامية والثقافية الموجّهة إلى الأطفال تعتمد بشكل متزايد على دوائر تسويقية متكاملة وخطوط إنتاج متعدِّدة لا تكتفي بإصدار سلسلة مرئية أو فيلم للرسوم المتحركة. تظهر الشخصيات الرسومية والمشاهد المقتطعة في إعلانات استهلاكية وعلى منتجات متعدِّدة في المتاجر؛ ويُطلَب من رموزها أن تتفشّى في المجتمعات على القمصان والحقائب والقبّعات والمقتنيات، علاوة على صناعة الألعاب الشبكية المتضخِّمة.

 

blogs طفل يشاهد التلفاز

ليست هذه رموزاً استهلاكية وحسب؛ فهي رموز ثقافية أيضاً؛ بانتسابها إلى بيئات محدّدة وتعبيرها عن وجهات قيميّة مخصوصة، علاوة على ما تنضح به من مفاهيم متحيِّزة. إنها تقدِّم عنفاً "مقبولاً" وتسلّحاً "مستساغاً" وعدواناً "مسموحاً به"، على طريقة سلاسل "حرب النجوم" أو "ستار وورز" التي تحوّلت إلى مخاطبة الطفولة، تنشأ تشابكات فعّالة بين قطاعات السُّوق وشركاتها الكبرى، لمطاردة الأطفال ومحاصرتهم، كما يبدو مثلاً في علاقة ديزني مع بعض شركات الألعاب، أو في علاقة شركة "ليغو" لألعاب التركيب مع سلسلة "حرب النجوم"، على سبيل المثال.

 

لا يقف الأطفال وحدهم في مرمى الاستهداف الوجداني التي تمارسه السُّوق بطرائقها الدعائية؛ فهو يشمل الأجيال جميعاً ويتحقّق من مداخل شتى، كل حسب سنِّه وشريحته واهتماماته؛ وليس العامل الديني استثناء من ذلك. إنها حالة مألوفة في صورها المبسّطة مع عناوين تجارية كبرى وشركات متعدِّدة الجنسية دأبت على دغدغة الشعور الديني في مواسمه ومزاراته.

تبدو الإعلانات الرمضانية، مثلاً، تعبيراً تقليدياً عن هذا المنحى، كأن ترجو الفواصل الإعلانية للجمهور "صَوْماً مقبولاً وإفطاراً شهيّاً" مع شراب الكولا المندلق برموزه المُعوَلمة وعبواته النّدِيّة وتدفّقاته الفوّارة، وهي مَشاهد تخضع لتلاعُب محبوك في إعدادها بهدف تعظيم الأثر الانطباعي. ويمتدّ الأمر إلى "هدايا" توزِّعها شركات كبرى على الحجّاج والمعتمرين، على هيئة حقائب للظّهر ومظّلات مثلاًَ، يُبتغَى منها أن تتجلّى وسائط إعلانية مرئية يحملها الطائفون والساعون في مناسكهم.

 

تسطو العلامات التجارية على مشهد الحجّ المبثوث عبر الشّاشات من خلال زحام المظلاّت وحقائب الظهر المكلّلة بالرموز البصرية للشركات الكبرى، وبلغ الأمر حدّاً استولت معه المظلاّت الإعلانية على صحن الطواف في البيت الحرام في بعض مواسم الحجّ، وتشكّلت معها لوحة كرنفالية مشبّعة بألوان الاستهلاك لا تليق بقدسية المكان وخصوصية المناسك. إنها السُّوق التي تجد فرصتها أساساً في تزاحم الأقدام، وتسعى إلى تعظيم الانطباعات المرتبطة بعلاماتها بوسائل الترويج المتجدِّدة.

 

ثمّ إنّ السوق لا تفوِّت فرصتها المتاحة في برامج وعظية وإرشادية تحظى بإقبال المشاهدين، فتدفع بمقاطعها الاستهلاكية الفجّة كلّ دقائق معدودة لتثبيت علاماتها التجارية في وعي الجمهور؛ بما يشبه إظهار هذه العلامات فجأة في الملاعب عند تسديد الأهداف الكروية. تنشأ تواطؤات ربحية بين شاشة محظية وواعظ مرئيّ وعلامة تجارية، وإن لم يقصد الواعظ هذا ابتداءً. أتاحت بعض البرامج التي قدّمها مشاهير الوعظ، تقلّباً متناقضاً بين سِيَر الصالحين الزّاهدين وفواصل الاستهلاك المكرّسة لسلع وخدمات ارتفع بعضها فوق منسوب القدرة الشرائية لأوساط عريضة من المشاهدين. ثمّ تطوّرت الحالة مع ضلوع واعظين في ترويج علامات تجارية في مواسم دينية؛ مثل أصناف العطور والأرُز والدّجاج وغيرها، على طريقة تُشبه استعمال مشاهير البثّ الشبكي المباشر في ترويج ملابس ومواد تجميل وسلع متعدِّدة؛ وإن لم يُمارِس بعض الواعظين ذلك بقصد أحياناً كما زعموا في توضيحات أدلوا بها لاحقاً بعد أن سلقهم الجمهور بألسنة حداد.

 

يجوز الافتراض بأنّ العوائد التي يحظى بها هؤلاء وهؤلاء من منصّات الوعظ والإرشاد؛ قد تُعين – مع عوامل أخرى – على تفسير بعض مواقفهم الجماهيرية واختياراتهم الفكرية واصطفافاتهم السياسية في عاجل الأمر أو آجله. ذلك أنّ التربُّح المادِّي يُنشئ مصالح تتشابك وتواطؤات تنعقد بما يُفضي إلى تثاقُل إلى الأرض وحرص على الامتيازات، وهذا لا يُشجِّع بطبيعة الحال على تفريط بحظوة أو تضحية بمكاسب تتيحها السُّوق – المقرّبة من السُّلطة عادةً – عندما تنسج شباكها لاحتواء بعض متحدِّثي الزُّهد ووعّاظ الوَرَع ضمن قوّتها الناعمة.

 

تكشف هذه المسالك عن ضلوع السُّوق في السّطو على القيَم وتحوير المفاهيم واستغلال الأفكار الرّائجة بطرائق متجدِّدة من موسم إلى آخر، وإن كانت لا تفعل فعلها بصفة مستقلّة عن أدوار أخرى ومتلازمات رديفة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.