شعار قسم مدونات

"تأثير غوغل".. هل يفسد التقدم التكنولوجي ذاكرتنا؟

BLOGS مواقع التواصل

زيد شاب مولع بالجغرافيا، إنه يحفظ عن ظهر قلب أسماء الدول حديثها وقديمها ويرسم حدودها ويُلوّن أعلامها ويسمي عواصمها وكبريات حواضرها. كلما احتاج أقاربه وأصدقاؤه معلومة عن ذلك توجهوا بسؤالهم إليه إن كان حاضرا، لكنه لاحظ أن أحدهم قد سأله عدة مرات عن عاصمة نفس الدولة في الآونة الأخيرة، فتساءل متعجبا عن مدى صعوبة تذكر كلمة واحدة فقط عوض طرح السؤال نفسه مراراً؟ قد يبدو مثل هذا المشهد مألوفا للكثيرين خاصة لو كان زيد مجرد هاتف ذكي، فهل القدرة على إيجاد الأجوبة والمعلومات لحظيا وفي أي مكان تساهم في اضعاف مَلَكَة الحفظ أم أن الأمر لا يعد سوى تأقلم للدماغ مع الواقع الجديد بما يرفع كفاءته في المعالجة عوض التخزين؟

دماغك يعشق الكسل

على الرغم أن وزن الدماغ لا يمثل تقريبا إلا 2٪ من مجمل وزن جسد الشخص العادي إلا أن استهلاكه للطاقة في الجسم يقدر بحوالي 20٪، وفي سبيل ترشيد هذا الاستهلاك النهم يبدو أن الدماغ يلجأ في عمله إلى أقصر الطرق وأسهلها، فكلما توفرت بدائل أقل تكلفة جنح إليها، فاليقين من التوفر الدائم لمصدر المعلومة يجعل اللاوعي يصنف بذل الجهد في تذكرها غير ضروري فتتلاشى سريعا. إلا أن سبر أغوار الدماغ لا يزال بعيد المنال وآليات عمله تبقى عصية على الفهم والحديث عن تأثير استخدام التكنولوجيا عليه يعتمد أساسا على تحليل نتائج الدراسات ومقارنة أداء الأشخاص الذين تشملهم في حل بعض التمارين والاختبارات.

اختراع الكتابة كان أوَّل القطر

يُرجع المؤرخون اختراع الكاتبة إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد في بلاد الرافدين، إلا أن استخدامها كان محدودا وظلت القدرة على الكتابة والقراءة حكرا على ثلة من الأفراد فبقيت المشافهة والحفظ أهم وسائل التواصل والتعلم لأمد طويل، وعرف العرب المسلمون طفرة في الكتابة في بداية الحكم العباسي فعُرف القرن الثاني للهجرة بعصر التدوين، لكن الثورة الكبرى صنعها اختراع آلة الطباعة منتصف القرن الميلادي الخامس عشر في أوروبا. إلا أن الأمية بقيت سائدة حتى القرن العشرين حيث قدرت في مطلعه بما يقترب من 80٪ من سكان العالم لتقل عن 20٪ مع نهايته.

 

blogs مواقع التواصل

 

بالرغم من تأخّر تعميم الكتابة والقراءة على سكان المعمورة إلا أن الفيلسوف اليوناني "سقراط" كان سبّاقًا إلى التحذير مما اعتقده تأثيرا سلبيا لاستعمال الكتابة على "العقل" حيث تنبأ أن انتشار الكتابة سيزيد من اعتماده عليها ويضعف أداءه ويدمر الذاكرة لأنها ستصبح بديلا عن الحفظ والفهم فعارض فكرة تعميمها. وفي ذمِّ الاعتماد على جمع الكتب نظم أحد العلماء المتقدمين مفاخرا بقدرته على حفظ العلوم وقال:

عِلمي مَعي حَيثُما يَمَّمتُ يَنفَعُني    قَلبي وِعاءٌ لَهُ لا بَطنُ صُندوقِ

إِن كُنتُ في البَيتِ كانَ العِلمُ فيهِ مَعي    أَو كُنتُ في السوقِ كانَ العِلمُ في السوقِ

 

من الطرافة أن الناظم لم يشر إلى الكتب لكن إلى الصندوق الذي يحتويها، ويبدو أنه ما كان ليتصور أن الصندوق سيصير يوما صُنَيْدِقاً يلازم الناس يحملونه في البيوت وإلى الأسواق ويتضمن من فنون المعارف وغيرها ما لم تحمله صناديق الكتب مجتمعة.

تأثير غوغل

انتشر مصطلح "Google Effect" بفضل دراسة جامعية أمريكية تعود إلى عام 2011 خلصت إلى أن الأشخاص يميلون إلى نسيان المعلومات التي يعتقدون أنها متوفرة للبحث مرة أخرى، وقد يميلون إلى تذكر أين وكيف توصلوا إلى المعلومة بدلا من حفظها، إلا أن الدراسة تدعي أيضا أن القدرة على اكتساب المعلومات تبقى على حالها عند نفس الأشخاص عندما لا يعتقدون أنها متوفرة للبحث وأن الظاهرة ليست خطرة بالقدر الذي قد تبدو عليه لكون الذاكرة البشرية أعقد من مجرد القدرة على الحفظ والاسترجاع.

 

في عام 2015 تم صياغة مصطلح "Digital amnesia" الذي يعني فقدان الذاكرة الرقمي بعد استطلاع قامت به شركة "Kaspersky" للأمن الرقمي حيث تم توسيع ظاهرة تأثير جوجل لتشمل المعلومات الشخصية كأرقام هواتف المعارف أو تواريخ ميلاد المقربين المخزنة على الأجهزة الشخصية وليس الحقائق المتوفرة على شبكة الإنترنت فقط.

 

بعد الذاكرة هل يأتي الدور على الذكاء؟

يثير تنامي الاعتماد على الأجهزة كمصادر خارجية للحفظ حفيظة الكثيرين خاصة بعد تعدي الأمر مجرد الحفظ إلى إشراك المصادر الرقمية في اتخاذ القرارات المتراوحة بين البسيطة كاختيار اللباس والمصيرية التي تحدد مستقبل الأفراد مساهمة في وأد التفكير النقدي تدريجيا بسبب الثقة الزائدة في قرارات مبنية على كم ضخم من البيانات لا يسع الإنسان الإحاطة به والتطور الرهيب لخوارزميات الذكاء الاصطناعي بالغة التعقيد.

 

تبقى مثل هذه الظواهر جزءا من سجال المتوجسين من التكنولوجيا خشية زحفها على إنسانيتهم والمتحمسين لها باعتبارها مجرد استمرار لما بدأه الأسلاف باستعمال الحجر بدل الأظافر والأسنان، فمر باختراع العجلة توفيرا لجهد العضلات ووصل إلى الثورات الصناعية المتتالية، إلا أن ما يسمى "الثورة الصناعية الرابعة" شكل منعطفا أكثر حدة حيث راحت الحدود الفاصلة بين الآلي والرقمي والبيولوجي تلاشي بشكل قد لا يمكن عكسه. أخيرا، سواء أيد الواحد منا هذا الفريق أو ذاك أو توسطهما إلا أنه من الضروري أن يعي الفرد مدى تأثير التقدم التقني عليه جسمانيا ونفسيا وعلى سلوكه وعواقب ذلك كخطوة أولى لمقاومة الأعراض الجانبية لذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.