شعار قسم مدونات

القات في اليمن.. إدمان جماعي مغلف بالتقاليد والأعراف!

The Cost Of War Along Yemen's West Coast

مع انتشار فيروس كورونا المستجد في اليمن، برز إلى السطح نقاشًا جديداً، قديما، بخصوص موضع تعاطي القات في اليمن، نطراً لأن أسواق القات المكتظة بالناس تعتبر من أكثر الأماكن والبؤر التي ينتشر فيها هذا الفيروس في اليمن. كثر الحديث عن القات، وكثرة الندوات والكتابات عنه وعن أضراره، كذلك أُنشأت العديد من الجمعيات والمبادرات المعنية فقط بالتوعية بأضراره وبمكافحته، لكن مع ذلك لم ينجح كل ذلك في الحد، ولو قليلاً من تعاطيه، فما السبب من وراء ذلك، وما الذي يجده اليمنيين في القات حتى يتمسكوا به بهذا الشكل الهستيري، هل السبب مرتبط بالإدمان أم بالعرف والتقاليد الاجتماعية السائدة في اليمن، وهل بالإمكان أن نرى اليمن يوماً ما خالياً من القات؟

 

بالرغم من كل الأضرار التي يسببها القات والجهود المبذولة للحد من ظاهرة تعاطيه، إلا أن المتعاطين يومياً في ازدياد وبكميات كبيرة جداً ومن كل المستويات والطبقات الاجتماعية والفئات العمرية والجنسية. بحسب إحصائيات منظمات الأمم المتحدة فإنه يُقدر عدد من يتعاطون القات بشكل يومي على مستوى العالم بنحو 15 مليون شخص، وفي اليمن تشير بعض التقديرات ان 90 بالمئة من الرجال في اليمن يتعاطون القات يوماً طيلة ثلاث ساعات إلى أربع ساعات، وقد تناهز نسبة الإناث اللائي يتعاطينه 50 بالمئة أو أكثر من ذلك، وتشير نتائج إحدى الدراسات التي أُجريت لصالح البنك الدولي في الآونة الأخيرة إلى أنّ 73 بالمئة من النساء في اليمن يمضغن أوراق القات بشكل متكرّر نسبياً.

 

وما يثير الذهول، في الوقت ذاته، أن 15 بالمئة إلى 20 بالمئة من الأطفال دون سن 12 عاماً يتعاطون القات بشكل يومي أيضاً. وتشير بعض الدراسات المعنية إلى ان اليمنيين ينفقون، على الأقل، حوالي 50 بالمئة من دخل اُسرهم على تعاطي القات. والواقع يقول ان الأرقام الفعلية أكبر من ذلك بكثير، فظاهرة تعاطي القات منتشرة بشكل واسع، ولا يكاد يخلو بيت في اليمن من متعاطي للقات بشكل يومي.

Dealers of qat, a mild stimulant, prepare qat leaves as they wait for customers outside a marketplace in Sanaa

تُظهر التقديرات ان تعاطي القات منتشر بشكل كبير، وأصبح يمثل حالة إدمان جماعية يعاني منها أغلب الشعب اليمني، ولمعرفة السبب من وراء انتشاره، كان لا بد من الذهاب إلى المكان الذي يتم فيه غالباً تعاطي القات، (الديوان) هكذا يطلقون عليه، وهو بمثابة مجلس أو صالة كبيرة مفروش بأثاث مجلس عربي، لا يكاد يخلو منزل في اليمن منه، في هذا المجلس يتخلل كل شخص وأخر (متكا) يتم الاتكاء عليه باليد اليسرى، وأمام كل شخصين ترميز ماء، وطفاية سيجارة.

 

للقات طقوس يقوم بها اغلب المتعاطين، فتبدأ جلسة تعاطي القات بالمزاح والضحك ومضغ القات ويكون مزاج المتعاطي رايق جداً وفي اشد حالات انبساطه وهذه هي المرحلة الاولى، بعد ساعة زمن من مضغ القات يكون الفم قد امتلئ بورق القات ويكون المجلس قد ساده شيءً من الهدوء والجدية، وقل الصخب وانتهى المزاح والضحك ويبدأ المتعاطون بالحديث عن مواضيع شخصية تهمهم وكذلك فتح مواضيع عامه دولية ومحلية، السياسية منها والاجتماعية، ويدلي كل شخص منهم بدلوه، وهذه هي المرحلة الثانية، وبعد ساعة زمن أخرى من الكلام والثرثرة يكون فم المتعاطي قد امتلئ على آخره بورق القات.

 

ويسود المجلس صمت تام، فلا تسمع همساً، ويكون كل متعاطي منكفئ على نفسه شارد الذهن يطيل التفكير بمشاريع وأشياء كثيرة وكبيرة في نفس الوقت، كلها تنتهي بمجرد إخراج القات من فمه، وهذه هي المرحلة الاخيرة وتسمى عند المتعاطين (الخدَارة)، وتعني ن المتعاطي وصل إلى ذروة نشوة القات ويكون مفعولة قد اكتمل، وعندما يصل المتعاطي لهذه المرحلة (الخدارة) يذهب لإنجاز عمله بكل نشاط وحيوية، فيزيد من تركيز الطالب عند المذاكرة، ويزيد من قوة جسم الفلاح عند ممارسة عمله – طبعا بحسب قولهم- . هذه باختصار جلسة تعاطي القات اليومية التي تحدث في معظم البيوت اليمنية.

Men chew on qat, a mild stimulant, as they sit on chairs on the side of a road in the Old Sanaa city

إسماعيل يحى خريج إعلام، يقول إن القات يمنحه تواصل أكبر مع الناس والمجتمع من حوله، فتقريباً المكان الوحيد الذي يجتمع فيه كل من حولك من الناس ليتبادلو الحديث هي مجالس القات. وبحسب علي ناجي، وهو طالب في السنة الرابعة، فإن القات يساعده على المذاكرة ويوفر له تركيز عالي وقدرة على الاستذكار، "لولا تعاطي القات لما استطعت دراسة حرف واحد من المقرر الدراسي، ويذكر انه يتعاطى القات من ايام دراسته للثانوية العامة".

 

أما يحى محمد، وهو مزارع من صنعاء، فيقول إنه بفضل القات يتمكن من العمل فالقات، بحسب قوله، يعطيه طاقة كبيرة جداً تمنحه القوة والقدرة على التحمل اثناء ممارسة عمله، وعند سؤالنا له هل تستطيع العمل بدون القات فأجاب "لا، لا أستطيع، يصيبني الإرهاق والتعب في فترة قصيرة جداً ولا أستطيع إنجاز اي شيء ". وبالمناسبة يحى هو أيضاً يزرع القات. ويذكر إبراهيم محمد، وهو موظف حكومي، أن القات يمنحه رغبه جنسية عالية جداً، وبحسب قوله، فإن القات يضفي جوا من المودة والألفة والحميمة بينه وبين زوجته التي هي الأخرى تتعاطى القات.

 

الجدير بالذكر أن القات لم يعد حكراً على الرجال كما كان في السابق فالنساء كذلك يتعاطين القات ولهن مجالسهن الخاصة، وتقول الكثير من الفتيات اليمنيات إن تناول القات بالنسبة لهن لا يعدوا مجرد وسيلة لتمضية الوقت في الجلسات الخاصة والمناسبات، وأوقات المذاكرة. ما لفت نظري من خلال حديثي مع الأشخاص المتعاطين للقات، أن جميعهم أجمعوا على أن تعاطي القات شيءً لابد منه لتعيش في اليمن وتندمج مع المجتمع اليمني، والواقع يثبت ما قالوا، فكل شيء من حولك يدعوك لتعاطي القات، من أصحابك في المدرسة إلى أصدقائك في الجامعة إلى زملائك في العمل إلى الجيران، إلى الأهل، وكل المناسبات من فرحً وعزاء وغيره ارتبطت إقامتها بالقات، حتى صار من لا يتعاطون القات قلة منبوذة في المجتمع اليمني.

Yemeni soldier chews qat next to a tribal resistance fighter in Marib, Yemen

الدكتورة نجاة خليل، باحثة اجتماعية تعمقت في دراسة أسباب انتشار القات في اليمن، ذكرت أن هناك أسبابا تؤدي إلى انتشار أي ظاهره، فهناك عوامل ثقافية واقتصادية واجتماعيه، مشيرة إلى أن من العوامل الثقافية التي ساهمت في انتشار تعاطي القات في اليمن اعتباره ثقافة يمنية وهوية للشعب اليمني، فالإنسان اليمني لكي يشعر بهويته كإنسان لا بد أن يمضغ "يخزِن" القات.

 

في كل مجتمع هناك محددات لدخول عالم الرجولة، من خلالها يتم تُجهز الفرد ليصبح صالحا للدخول إلى هذه العالم، فتعاطي القات في اليمن هو من أهم محددات عالم الكبار في المجتمع اليمني.. فالأب يعطيه ابنه "عودي" غصن قات ويقول له باللهجة الدارجة "خزن تقع رجال" تعاطى القات لتكون رجلً، وبالتالي ارتبط مفهوم الرجولة والانخراط في المجتمع بفعالية، ارتبط عند الأطفال بتعاطيهم للقات. تشير بعض الدراسات الميدانية إلى أن الأطفال من سن 7 إلى 15 سنة يتعاطون القات بشكل كبير، وأن السبب الرئيسي لتعاطيهم هو الأب، لأنه يعتقد أنه عندما يسمح لأبنائه بتعاطي القات فهو بذلك يهيئهم ليصبحوا رجالً، وهذا من أهم العوامل الاجتماعية لانتشار القات في اليمن.

 

يُجمع الكثير من الدارسين لهذه الظاهرة على أن السبيل الوحيد لمكافحة القات والحد منه هو بتغيير هذه الثقافة السائدة أو تقويمها على الاقل، فالحملات التوعوية التقليدية القائمة على التعريف بأضرار ومخاطر القات لا تسمن ولا تغني من جوع ولا توثر في الحد منه، وهو ما يفسر انتشاره في ظل وجود منظمات كثيرة تعنى بمكافحته. والبداية في اعتقادي يجب ان تكون في توضيح نقطة في غاية الأهمية، وهي أن القات نوع من أنواع المخدرات وليس منبه كالشاي أو البن، وتعاطيه يومياً يعتبر إدمان، بل في أشد مراحل الإدمان.

Men chew qat, a mild stimulant, inside a shop in Sanaa's Old City district

تنبهت بعض المنظمات لهذه الأمر وبداءة في التوجه لغرس ثقافة جديدة تحد من تعاطي القات، فأقامت على سبيل المثال مؤسسة يمن بلا قات حملة "أعراس بدون قات" وقد كانت نظمت عدداً لا بس به من الأعراس (حفلات زفاف) التي طُلب فيه من جميع الحضور الامتناع عن تعاطي القات. وهي فكرة رائعة وكانت قد بدأت تجني ثمارها، إلا أنها لأسباب عدة توقفت أو بالصح اندثرت ولم يبقى لها أي وجود يذكر، وزاد تعاطي القات في الأعراس وبوتيرة أكبر من ذي قبل، فسابقاً كان غالباً يتم تعاطي القات في الأعراس عصراً عند المقيل أما الآن فيتم تعاطيه في الليل أيضاً، فالسمرة لا تحلوا إلا "بعودي" بغصن القات.

 

من التجارب الناجحة أيضًا ما قام به صندوق تنمية المشاريع الصغيرة من مبادرات أطلقها لدعم المزارعين على التخلص من شجرة القات واستبدالها بشجرتي البن واللوز، وحققت هذه المبادرات نتائج لا يستهان بها، فقد تخلصت قرى كثيرة في منطقة حراز من القات تماماً واستبدلته بالبن، هذه المبادرات وغيرها تحتاج مزيداً من الدعم والتطوير. فالتخلص من زراعة القات ليس بالأمر الهيّن، وهنا لا نتحدث عنه من جانب اجتماعي فقط بل اقتصادياً، فقد أصبحت زراعة القات في اليمن مصدر دخل أساسي للكثير من المزارعين اليمنيين – إن لم نقل جميعهم- ومن يشتغلون في بيعه ونقله. وأصبح بيعه ونقله وزراعته وتصديره إلى الخارج صناعة أكثر منها زراعة، انخرط فيها الكثير من اليمنيين وأصبحت الأموال التي تأتي من بيع وتصدير القات، والتي يتم تداولها يومياً في اليمن، تمثل دورة اقتصادية حيوية لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة.

 

بإمكان اليمنيين الإقلاع عن تعاطي القات، لكن هذا ليس بالأمر السهل، وفي الإمكان أيضاً ان نرى اليمن بدون قات، لكن ليس في المدى المنظور، يحتاج الأمر للكثير من الجهد والعمل وللمزيد من الأفكار الإبداعية والحلول البديلة التي تُسهم في زرع ثقافة جديدة في وعي الإنسان اليمني، خصوصاً الجيل الناشئ، أو بالأصح نزع الثقافة الدخيلة، فثقافة تعاطي القات ثقافة دخيلة على المجتمع اليمني ومخطئ من يقرنها بالعادات والتقاليد اليمنية، فكما أكد العديد من المؤرخين، أن القات قبل ما يقارب الـ 80 سنة لم يكن له أي وجود في اليمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.