شعار قسم مدونات

هكذا ردت ألمانيا على محاولات ترمب شراء علماءها

Employee Philipp Hoffmann, of German biopharmaceutical company CureVac, demonstrates research workflow on a vaccine for the coronavirus (COVID-19) disease at a laboratory in Tuebingen

 

يستطيع الرئيسُ الخامسُ والأربعون لأعتى قوّةٍ في العالم أن يدفعَ لشركاتِ بلاده العاملةِ في الخارجِ أضعافَ ما اتَّفقَت عليه مع حكوماتِ دولٍ أخرى، لكي يُبرّر ما وُصفَ بأعمالِ "قرصنةٍ عصريةٍ" على أنّه عملٌ لمصلحةِ مواطنيه، هذا ما تداولتهُ وسائلُ إعلامٍ عالميةٌ في الثالث من إبريل/نيسان الماضي على لسانِ أندرياس غايزل (Andreas Geisel)، وزيرِ الداخليةِ في حكومةِ ولايةِ برلين، ردّاً على تحوُّلِ مسارِ شحنةِ كماماتٍ طبّيةٍ من نوع ِFFP2 و FFP3 كانت في طريقِها إلى برلين، لينتهي بها المطافُ في الولاياتِ المتحدةِ الأميريكيةِ.

 

ولكن حين يتعلّق الأمر بمحاولة إغراءِ الباحثين العلميين بألمانيا بعروضٍ ماليةٍ سخيّةٍ للعملِ على إنتاجِ لقاحٍ ضدَّ فيروس كورونا تكونُ الاستفادة منهُ للأمريكيين أوّلاً، فإنّ ألْطَفَ ما يُمكن لدونالد ترمب أن يسمعَ من برلين "ألمانيا غيرُ معروضةٍ للبيع." هذا ما قالهُ بيتر أَلْتْمَيَر (Peter Altmaier) وزيرُ الاقتصاد الألمانيّ في مقابلةٍ بثتها القناةُ الإخباريةُ الأولى في ألمانيا ARD في الخامس عشر من مارس/آذار الماضي ضمنَ البرنامج الأسبوعيّ "تقرير من برلين" (Bericht aus Berlin).

 

الوزير الألمانيّ تلفّظَ بعبارته تلك في معرضِ ثنائه على مواطنه الملياردير ديتمر هوب (Dietmar Hopp) لرفضهِ الاستجابة للإغراءاتِ المقدمةِ من وراءِ البحار. وخلفيةُ ذلك أنّ السيد هوب، كمساهمٍ أكبرَ في شركةِ CureVac للتكنولوجيا الحيويّة (Biotech) ومقرُّها مدينةُ تيوبِنجين (Tübingen) الألمانيةُ، وهو إلى ذلك أحدُ مؤسسي شركة SAP ثالثِ أكبرِ شركاتِ البرمجياتِ المتخصصةِ في معالجةِ البياناتِ عالميّاً والأولى أوروبيّاً ومقرُّها مدينةُ فالدورف (Walldorf) الألمانيةُ، كان قد صرّح لصحيفةِ مانهايمر مورغن (Mannheimer Morgen) الألمانيةِ قبلَ ساعاتٍ من تعليقِ وزيرِ الاقتصاد الألمانيّ أنّ CureVac حالَ نجاحِها في تصنيعِ لقاحٍ لفيروس كورونا، "لن تدعَ اللقاحَ يكونُ حكراً على أحدٍ، بل ستقدُّمُه للعالمِ أجمع عملاً بمبدأ التضامنِ الإنساني."

 

ولعلّ في إعقابِ مصادرةِ شحنةِ الكماماتِ الطبّيةِ السالفِ ذكرُها لمحاولةِ الرئيسِ الأميركي شراءَ الباحثين الألمان ما يبعثُ برسائلَ ضمنيةٍ إلى برلين، يصعبُ معها اعتبارُ الرغبةِ في تطويعِ القرارِ الألمانيِّ لمصلحةِ صناعةِ الدواءِ العالميةِ أمراً مستبعداً (إذا ما أُخِذَ سلوكُ الهيمنةِ المعهودُ لدى الولايات المتحدة الأمريكية بعين الاعتبار)، أو ضرباً موغلاً في الخيال (إذا ما نُظرَ إلى الأمر بعين مُتّخذِ القرارِ الألمانيّ). وبصرفِ النظرِ عن هذا وذاك، فسيّدُ البيتِ الأبيضِ لا يبدو حقّاً معنيّاً بأثرِ القيمةِ الأخلاقيّةِ في صياغةِ الرأي العام، أو أنّ مستشاريه، رُبّما، لم يُوفّقوا في إيضاحِ حرصِ ألمانيا في ظلّ جائحةٍ كونيةٍ على إبقاءِ موارِدها، البشريةِ والتقنيةِ على حدٍّ سواء، رهنَ إشارتِها، أقلُّه لما في ذلك من ضمان استقلاليةِ قراراتِها وحمايةِ أمنِها القوميّ.

 

Trump Reportedly Seeking Exclusive Access To Coronavirus Vaccine From German Biotech Firm CureVac (غيتي إيميجز)

 

ولئن كانت عبارةُ "ألمانيا غيرُ معروضةٍ للبيع" بمضامينها البلاغيةِ وآثارها النفسيةِ أميلَ إلى دوافعِ التباهي الإعلاميّ منها إلى أغراضِ التوصيفِ الواقعيّ، فإنّ ما قامت به الحكومةُ الإتحاديةُ في برلين مطلعَ الشهرِ الجاري يُظهرُ عزماً قاطعاً على المضيّ قُدُماً في عملِ كلّ ما من شأنِه تحصين الأمنِ القوميّ وتوثيقُ اللُّحمةِ المجتمعيةِ لمنعِ تداعياتِ الوباءِ العالمي من الاستغراق مستقبلاً. ففي الثالث من يونيو/حزيران الجاري أعلنت المستشارةُ الألمانيةُ  د.أنغيلا ميركل (Dr. Angela Merkel) عن حزمةِ تحفيزٍ اقتصادية بقيمة 130 مليار يورو (أي ما يعادل 146 مليار دولار أميركي).

 

المثيرُ للانتباه في ذلك البرنامج الطموح أنّه يتجاوزُ معالجةَ ما نجمَ عن وباء كورونا (كالركود الاقتصادي، وحالاتِ الإفلاس العامةِ والخاصةِ، وما يتبع ذلك من ضعفِ القدرةِ الشرائية، وارتفاعِ معدلاتِ الفقر لدى الأفرادِ والعائلات)، إلى حشدِ المواردِ الماليةِ والتقنيةِ بواقعِ 50 مليار يورو (ما يعادل 56 مليار دولار أميركي) استعداداً لمواجهةِ مشكلاتٍ مستقبليةٍ كالتغيّر المناخي، وتوفيرِ مصادرَ للطاقةِ المتجددة، وتطوير وسائل النقّل الإلكترونيّ (E-Mobility)  ولوازمِ الحياةِ الرقميّة استناداً إلى تطبيقاتِ الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) والحوسبةِ الكموميّة (Quantum Computing).

 

وبالعودةِ إلى CureVac، شركةِ التكنولوجيا الحيويّةِ التي لأجلها تكبّدَ الوزيرُ الألمانيُّ عناءَ التنويهِ -بطريقتهِ الخاصةِ- إلى قدرةِ بلادِه على حفظِ وإدارةِ مواردها، فقد كان لها نصيبٌ من حزمةِ التحفيزِ الاقتصادي هذه. إذ أعلنت الحكومةُ الفيدراليةُ مطلعَ الأسبوعِ الحالي (أي في الخامسِ عشر من يونيو/حزيران الجاري) على صفحتها الرسميةِ على الشبكةِ العنكبوتيةِ شراءَ 23 بالمائة من أسهمِ CureVac بقيمةِ 300 مليون يورو. بعد يومين من ذلك الإعلان عزّزت CureVac خطوةِ الاستثمار الحكوميةِ فيها بحصولها (في السابع عشر من يونيو/حزيران الجاري) على تصريحِ البدءِ بتجارب اللقاحِ على متطوعين من البشر.

 

ومع أنّ السماحِ لها ببدءِ التجاربِ السريريةِ لا يجعلُ CureVac الأوفرَ حظاً بين شركاتِ التكنولوجيا الحيويةِ العاملةِ على إيجادِ لقاحٍ ضد فيروس كورونا بتقنيّة “الحمض النووي الريبوزي المرسل” mRNA))، إذ سبقتها منافستُها الألمانيةُ BioNTech بحصولها نهايةَ إبريل/نيسان الماضي على التصريح المطلوبِ، و قبلهما المنافسةُ الأكبرُ Moderna الأميركية، والتي بدأت المرحلةَ الأولى من التجارب على متطوعين من البشر في مارس/آذار الماضي، وهي تستعدُ الآن لدخولِ المرحلةِ الثالثةِ من التجاربِ السريرية في يوليو/تموز القادم، إلاّ أنّ تجربةَ CureVac تُعدُّ فريدةً من نوعها. إذ أنّها منذ الإعلان عن خوضِ سباقِ البحثِ عن لقاحٍ ضدّ فيروس كورونا ما فتِأت تحرزُ نجاحاتٍ نوعيةً أكسبتها دعماً أوروبياً بقيمةِ 80 مليون يورو في مارس/آذار الماضي قبلَ أن تصبحَ محطّ أنظارِ المستثمرين الأجانب ومركزَ دفاعِ الحكومةِ الألمانيةِ.

 

Employee Philipp Hoffmann, of German biopharmaceutical company CureVac, demonstrates research workflow on a vaccine for the coronavirus (COVID-19) disease at a laboratory in Tuebingen (رويترز)

 

وبدخولها المرحلةَ الأولى من التجاربِ السريريةِ تعتزمُ CureVac إجراءَ تجاربها على 168 متطوعٍ سليمٍ لا يزيدُ عمرُ الواحد فيهم على 60 عاماً، على أن ترفعَ أعدادَ المتطوعين بحلولِ المرحلةِ الثانيةِ في سبتمبر/أيلول المقبل. هدفُ التجاربِ في المرحلةِ الراهنةِ تحديدُ المقدارِ الأمثلِ للجرعةِ اللازمةِ لإحداثِ المناعةِ المرجوّةِ، والتأكدِ من أنّ حقنَ المتطوعين باللقاحِ المصنّع ينتجُ كمياتٍ واقيةٍ من الأجسامِ المضادة. فإذا ما تمّ ذلك يصبح بالمقدورِ تسويقُ اللقاحِ منتصفَ العامِ القادمِ (2021) وفقَ توقعاتِ CureVac.

 

لا شكّ أنّها خطةٌ طموحةٌ تلك التي تسعى CureVac إلى إنجازها. وهي في الوقتِ ذاتهِ رهانٌ مدروسٌ من الحكومةِ الألمانيةِ، ضمنت بموجبه حق مواطنيها ومحيطها الأوروبيّ في الحصولِ على لقاحٍ ضدّ فيروس كورونا في حالِ نجاح CureVac في تصنيعه. لكنّ كسبَ الرهانِ الأكبر يتطلبُ إحكامَ التعاطي مع واجباتِ مراحلِ الإختباراتِ المختلفةِ دون التأثر بالفارقِ الزمنيّ بين CureVac ومنافيسيها. فالعبرةُ بإنتاجِ لقاحٍ فعّالٍ ومأمونِ الاستعمال، لا بطرحِ واحدٍ لا يلبثُ أن يُسحبَ من الأسواقِ لثبوتِ ضررِه حين استعماله من مئاتِ الملايين من الناس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.