شعار قسم مدونات

بعد بلوغها الهدف.. ألمانيا تنهج استراتيجية "التسارعِ والفرملة"

أنجيلا ميركل

ما كان موضِعَ تساؤلِ الكثيرين بالأمسِ، باتَ اليومَ واقعاً يعلمُهُ الجميع. فبعدَ ظُهرِ السادسِ من مايو/أيار الجاري، أطلّت المستشارةُ الألمانيةُ، د. أنجيلا ميركل، مرتديةً سترةً حمراءَ لا تخلو من دلالاتٍ تحذيريّةٍ ضمنيّةٍ، ومستخدمةً فعلَ الوقوفِ بما يشي بانعدامِ الرغبةِ في الإنطلاقِ، لتعلنَ أمام العدسات:(نقفُ على نقطةٍ نستطيعُ القولَ معها أنّنا بلغنا الهدفَ بإبطاءِ انتشارِ الفيروس). كان ذلك عقِبَ لقائِها مع رؤساءِ الحكوماتِ الفدراليةِ الستةِ عشر في جمهوريّةِ ألمانيا الاتحادية والذي أسفرَ عن استجابتِها لمطالباتهم بتخفيفِ حالةِ الإغلاقِ، والسماحِ لكافّةِ المحالِّ التجارية بفتح أبوابِها، وللناسِ بمزاولةِ المزيدِ من مظاهرِ حياتِهم الإجتماعيّةِ صُعوداً تدريجيّاً مُبرمَجاً لسابق العهد قبل الوباء.

السيدة ميركل شكرَت الطواقم الطبيةَ لتفانيهم ومهنيتهم الفائقة، ولم تنسَ أن تُشيدَ بوعي المواطنين لالتزامهم باتباعِ إجراءاتِ العزلِ وقَبولهم تعليقَ حرياتهم الشخصية طيلةَ الأسابيعِ الماضيةِ في سابقةٍ لم يشهد النظامُ الديمقراطيُّ في ألمانيا مثيلاً لها منذُ الحربِ العالميةِ الثانيةِ. وحيثُ أنّ بذلك الإعلانِ تُطوى صفحةٌ قالت عنها المستشارةُ المخضرمةُ إنها فقط المرحلةُ الأولى، مؤكدةً أنّنا "لا زلنا بعدُ في بدايةِ البداية"، فإنّ السؤالَ المطروحَ الآن: ما هي الاستراتيجيةُ المعمولُ بها في المرحلةِ المقبلةِ؟ وما حظوظُها من النجاح؟ فيما يلي سأعرِضُ خلفيّاتِ قرارِ تخفيفِ إجراءاتِ العزلِ بنكهتِه الألمانيةِ قبلَ أن أتطرّقَ لطبيعةِ الاستراتيجية المعتمدة للمرحلةِ المقبلةِ وفرصِ نجاحها.

ما خلفيّاتُ تخفيفِ الإغلاق؟
ألقت المستشارةُ الألمانيةُ بعصا إدارةِ الخروجِ من الإغلاقِ على الحكوماتِ الفدراليةِ، ليصبحَ التنافسُ مفتوحاً لابتكارِ طرائقَ متنوعةٍ لجنيِ المزيدِ من ثمارِ فكِّ الإغلاق مع المحافظةِ على المكتسباتِ الحاليةِ

1- سباقاتٌ انتخابيّةٌ وراء الكواليس
لا بُدّ من الإشارةِ إلى أنّ العديدَ من رؤساءِ الحكوماتِ الفدراليةِ كانوا قد استبقوا إعلانَ السيدةِ ميركيل عن إنجازِ الإنتصارِ الأولِ على كورونا بتخفيفِ قيودِ الإغلاقِ في الولاياتِ التي يحكمونها، واضعين بذلك النتيجةَ المرتقبةَ لاجتماعِهم (conference call) مع مستشارتِهم في حُكمِ الحاصلِ. أول الدافعين إلى رفعِ الإغلاق كان آرمين لاشيت (Armin Laschet) رئيس حكومةِ ولايةِ نورد راين فيستفالِن (Nordrhein-Westfalen). فقبل يومين من الإجتماعِ الأسبوعيِّ مع المستشارةِ الألمانيةِ ظهرَ السيد لاشيت مُتفقّداً سيرَ العملِ في إحدى مصانعِ فورد (Ford) للسيارات في مدينةِ كولونيا (Köln)، إحدى أكثرِ المدن الألمانيةِ حيويّةً والأكبرِ من حيث التعدادِ السكانيِّ ضمنَ ولايةِ نورد راين فيستفالِن. ومع أنّ إلحاحَه بضرورةِ تخفيفِ إجراءاتِ العزلِ كان قد بدأ قبلَ أسابيعَ من يومِ تشغيلِ المصانعِ فعليّاً، إلاّ أنّ استباقَه تشغيلها قبلَ الإتفاقِ المرتقبِ مع السيدة ميركل تحدوهُ على الأرجحِ رغبةُ التذكيرِ بأنّ التقريرَ بشأنِ الصحةِ العامّةِ والأنشطةِ الحياتيّةِ داخلَ الولاياتِ الفدراليةِ إنما هو حقُّ الحكوماتِ الفدراليةِ وحدها، وأنّ الحكومةَ الإتحاديةَ ممثلةً بمنصبِ المستشارِ الألمانيّ ينتهي دورُها عند حدود التنسيق ومزاوجةِ المصالحِ المشتركةِ للحكومةِ الإتحاديةِ وحكومةِ الولايةِ المعنيةِ.

حريٌّ بالذكر أنّ السيد لاشيت واحدٌ من مُرشحَيْن اثنين هما الآن الأوفرُ حظّاً لخلافةِ ميركل على منصب المستشاريّةِ. الثاني هو ماركوس زودر (Markus Söder) رئيسُ حكومةِ بايرن (Bayern)، أكبرِ وأغنى الولاياتِ الفدراليةِ الألمانيةِ. ومع أنّ السيد زودر كان من أوائلِ الداعمين والمنفذين لإجراءاتِ عزلٍ صارمةٍ وعلى نطاقٍ واسعٍ دون الرجوعِ للحكومةِ الإتحاديّةِ في برلين، إلاّ أنه بتأثيرِ الدومينو الذي أحدثَهُ منافسُهُ آرمين لاشيت، وما أعقبهُ من تهافتِ الولايات الأخرى كولايةِ ساكسن أَنْهَلت (Sachsen-Anhalt) وولايةِ نيدر ساكسن (Niedersachsen) على السماحِ بتجمّعِ الأفرادِ لأكثرَ من خمسةِ أشخاص (بزيادةِ ثلاثةِ أشخاص على ما أقرتهُ الحكومة الإتحاديّة في برلين)، وفتحِ المطاعمِ وأماكن الأكل، فإنّهُ (ماركوس زودر) أعلنَ عن رغبةِ حكومتهِ في وضعِ خطةٍ للتدرجِ في الخروجِ من الإغلاق.

2- خطرُ التمزّقِ الاجتماعي
لا شكَّ أنّ جائحةَ كورونا بما استلزمتهُ من إجراءاتِ العزلِ والتباعدِ الاجتماعيِّ، بالإضافةِ إلى حالةِ الإغلاقِ وما أفضت إليهِ من شعورٍ سلبيٍّ عامٍّ جراءَ فقدانِ الكثيرين لوظائِفهم، أدّت إلى تفاقُمِ حالةِ اللاّيقين (uncertainty) لدى العديدِ من الأفرادِ. و بمرورِ الوقت، انقسمَ المجتمعُ الألمانيّ إزاءَ ذلك كلِّهِ إلى ثلاثِ فئات: الأولى لا تزالُ تؤيّدُ الإجراءاتِ الصارمةِ بغرضِ حمايةِ الصحةِ العامةِ، والثانيةُ تجدُ أنّ كُلّ ما أُعلِنَ عنهُ وتمّ تحقيقُهُ من أهدافٍ كان يمكنُ إنجازُهُ بتكلفةٍ ماديّةٍ ونفسيّةٍ واجتماعيةٍ أقلَّ مما دُفِعَ فعلاً، والثالثةُ ترى أنّ الأمرَ كلَّهُ كان منذ البداية مبالغاً فيه.

ولعلَّ ما جرى مع بروفيسور كريستيان دروستن (Christian Drosten)، مديرِ معهدِ علومِ الفيروسات بمستشفى شاريتيه ببرلين (Berliner Charité)، والوجهِ العلميِّ الأكثرِ ارتباطاً بأزمةِ كورونا عند الناسِ لدوره الفعال في التحديثِ اليوميّ لبودكاست آخرِ تطورات الوباء، يُبيّن ما آلَ إليهِ المجتمعُ الألمانيُّ في الموقفِ من أزمةِ كورونا. وللعلم، بروفيسور دروستن كان أحدَ الذين شاركوا في إماطةِ اللثامِ عن فيروس سارس (Sars) عام 2003. في مقابلةٍ له مع صحيفةِ الغارديان البريطانية أواخرَ شهر إبريل/نيسان الماضي، ذكر بروفيسور دروستن أنّه تلقى العديدَ من رسائل التهديدِ بالقتلِ لما اعتبرَهُ مرسلوا هذهِ الرسائِل مسؤوليتَهُ الشخصيّةَ عن تعطيلِ الحياةِ العامّةِ والتسبّبِ في دمارِ الإقتصادِ وخرابِ البيوتِ الناشئ عن فقدانِ الوظائفِ. بدورِه استغربَ عدمَ إدراكِ الكثيرين للوضعِ الحاليّ وما يتضمنه من عناصرِ مفارقةِ الوقايةِ الشهيرة (Prevention Paradox).

وهي مفارقةٌ تعودُ إلى عالِمِ الأوبئةِ البريطانيّ جيفري روز (Geoffrey Rose). وحاصلُ القولِ فيها أنّ مردودَ إجراءاتِ الوقايةِ المتخذةِ ضدَّ وباءٍ ما لا تُستشعرُ من الأفرادِ والمجموعاتِ بنفسِ القدرِ من الإيجابيَّةِ. ففي حالةِ كورونا، لو أنّ رغبةَ المجتمعِ كانت بالمحافظةِ على عجلةِ الحياةِ اليوميةِ دون إجراءاتِ عزلٍ وما شابه، فإنّ الوباءَ كان سينتشرُ مُعرّضاً حياةَ الملايين من الأفرادِ للخطر. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، فإنّ الرغبةَ في المحافظةِ على حياةِ الأفرادِ (وهو ما جرى تبنّيهِ رسميّاً وتحقيقِه عمليّاً) أصابت البُنيةَ الإقتصاديةَ للمجتمعِ الألمانيِّ وغيرهِا من البنى الإقتصاديةِ في العالم بأضرارَ بالغةٍ قد تحتاجُ إلى سنواتٍ لكي يتسنى لها التعافي.

ما هي استراتيجية التعامل المقبلة وما حظوظها من النجاح؟

الآن، وبعد أن نجحت المساعي الألمانيّةُ في إبطاءِ انتشارِ فيروس كورونا من خلالِ ما اتُخذَ من إجراءاتٍ اجتماعيةٍ وإداريةٍ، تدرّجت شدّةُ صعودِها على مدى ستةِ أسابيع، ابتداءً من الأسبوعِ الأولِ من شهرِ مارس/آذار إلى منتصفِ إبريل/نيسان، ليتأكدَّ في الأسابيعِ الثلاثةِ التي تليها استقرارُ حالةِ النجاحِ، فإنّ تخفيفَ القيودِ كمدخلٍ لمرحلةِ ما بعدَ إبطاءِ انتشارِ الفيروسِ تتطلبُ تدرّجاً مشابهاً في الطريقِ إلى إتمامِ المرحلةِ القادمة بما يمكنُ التعبيرُ عنه باستراتيجيةِ "التسارعِ والفرملة".

وعليهِ، فقد ألقت المستشارةُ الألمانيةُ بعصا إدارةِ الخروجِ من الإغلاقِ على الحكوماتِ الفدراليةِ، ليصبحَ التنافسُ مفتوحاً لابتكارِ طرائقَ متنوعةٍ لجنيِ المزيدِ من ثمارِ فكِّ الإغلاق مع المحافظةِ على المكتسباتِ الحاليةِ (جانبُ التسارُعِ). من ناحيةٍ ثانيةٍ، وعودةً إلى دورِ المراقبِ المنسّقِ، فإنّ الحكومةَ الإتحاديّةَ ببرلين احتفظت بحقِّ تشديدِ القيودِ على الولاياتِ التي تُخِلُّ بواجبِ المحافظةِ على ما أُنجزَ من نجاحاتٍ بفضلِ التنسيقِ مع الحكومةِ الإتحاديّةِ (جانب الفرملة). وحيثُ أنّ المعيارَ العمليَّ لإبطاءِ انتشارِ الفيروس يتمثّلُ في الإبقاءِ على معدّلِ استنساخٍ دون الواحد (للمزيد حول هذا الموضوع، إرجعْ إلى مقالِنا المنشورِ في مدوناتِ الجزيرةِ تحت عنوان "ما حقيقةُ احتواءِ ألمانيا لوباء كورونا؟")، فإنّ تجاوزَ عددِ الإصاباتِ الجديدةِ بفيروس كورونا لخمسين إصابةٍ في كُلّ آخرِ سبعةِ أيامٍ لكلّ 10٠000 ساكنٍ في مكانٍ ما، في ولايةٍ ما، يستلزمُ العودةَ في تطبيقِ إجراءاتِ العزلِ لهذا المكان وحدَه.

فاعليّةُ استراتيجيةِ التسارعِ والفرملةِ هذه تنبعُ من إشراكِ الحكومة الاتحادية، ممثلة بالمستشارة أنجيلا ميركل، لرؤساء الحكوماتِ الفدراليّة والمواطنين في قرارِ إدارة مرحلة الخروج من الإغلاق. وحيثُ أنّ الحلَّ الطبيَّ للأزمةِ لا يزالُ مفقوداً، فإنّ التعويلَ على الوعي المجتمعي (مع الإحتفاظِ بقابليّةِ الفرملةِ) يبقى المُرجِّحَ الأمثلَ لضمانِ وحدةَ المجتمعِ وتماسكِ أفرادهِ ضدَّ وباءٍ قلَّ مثيلُهُ في العصرِ الحديثِ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.