شعار قسم مدونات

منع التجول.. نظام من ذاكرة الأزمات

blogs تركيا

لا يتذكر الناس عادة المرة الأولى التي عرفوا فيها كثيرا من ممارساتهم قبل أن تصبح بحكم الواقع حدثا متكررا في حياتهم، فإن سألت أحدهم مثلا عن أول مرة ركب فيها الحافلة أو اشترى الخبز أو وقف أمام نافذة بيته فأغلب الظن أنه سيعجز عن تحديد ذلك الميعاد بدقة ما لم يكن مرتبطا في ذهنه بحدث أكثر عمقا وأشد تأثيرا.

 

إن هشاشة الذاكرة تلك هي ما يدفع البعض لإنشاء مناسبات خاصة يثبتون بها تلك المواقف ويشبهون ارتباط المكان أو الزمان مع الحدث فيها بـ "الأعمدة الرومانية"، فالحدث المميز هنا ينتصب بشموخ يجذب العين إليه دون تركيز على تفاصيل بقية عناصر المكان التي اعتادها البصر حتى وإن كانت جولة قتال صباحي في ميدان شديد الهيجان.

 

بل إن بعض فلاسفة وسائل التعليم الحديث يذهبون إلى نصح المتعلمين ببناء هذه الأعمدة في أي نص يتعاملون معه لتخزينه في الذاكرة وكأنه العامود الثابت في الأرض، أما علوم "الفزلكة" المستحدثة فيقوم بعضها على محاولة إعادة ابتكار تلك الأعمدة ومحاولة بيعها للناس باسم النصح والإرشاد.

 

في تاريخ العرب الحديث، عرفت ممالك ما بعد الاستقلال وجمهورياته منع التجوال تحت قانون الطوارئ في كثير من المناسبات ذات الأبعاد المرتبطة بملفاتها الداخلية
 

لكن.. ما علاقة ذلك بمنع التجول؟

يصعب على الباحثين تحديد المرات الأولى التي خضعت فيها المجتمعات الإنسانية لمنع التجول ذلك أن حجز الناس في بيوتهم لتجنب الإصابة بالأذى أو ما يسمى بـ "الحجر" ممارسة اتبعتها الأقوام القديمة وتوثقها الكثير من المراجع ومنها أن أهل مكة لهذا الحجر يوم فتحها الإسلام في السنة الثامنة للهجرة (630 ميلاديا)، وخضعوا لها في علم الفيل الذي ولد فيه نبي الإسلام محمد عليه السلام يوم لزموا بيوتهم خوفاً من اجتياح فيلة الحبشة للبلد الحرام، بل إن القرآن الكريم وثق لزوم البيت عند الخوف في سلوك كائنات غير البشر في قوله تعالى " حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" سورة النمل – 18.

 

وفي حاضرنا شديد القرب، خضع العالم العربي لظروف حكم قهري غلبت عليه أنظمة الشمول بطباعها المستبدة التي عرفت كيف تحجز المواطن في بيته "بقدرة قادر" ومتى تخرجه للشارع "بقرار كادر"، فكانت الوريثة الشرعية والامتداد المنهجي لنظام حكم زياد ابن أبيه (623-673) ميلادياً وهو أول من فرض منع التجول في التاريخ الإسلامي خلال ولايته على البصرة في عهد الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان (602-680) ميلادياً.

 

وفي تاريخ العرب الحديث، عرفت ممالك ما بعد الاستقلال وجمهورياته منع التجوال تحت قانون الطوارئ في كثير من المناسبات ذات الأبعاد المرتبطة بملفاتها الداخلية، فقد فرض حافظ الأسد منع التجول على مدينة حماة السورية بكاملها خلال قمعه لثورة الإسلاميين في نيسان / أبريل 1981، وفرض عبد الفتاح السيسي منع التجول على كثير من أحياء العاصمة المصرية القاهرة في أغسطس / آب 2013 عقب الفض الدموي لاعتصام ميدان رابعة العدوية المناهض للانقلاب على حكم الرئيس المدني الوحيد في تاريخ مصر الحديث الراحل محمد مرسي.

 

والحقيقة أن هذا (النظام) – منع التجول – لم يكن بدعة عربية بقدر ما كان أسلوب حياة خلقه سدنة الحكم في بلدان العالم غير الديموقراطية وتوارثوه عبر التاريخ- ربما نناقش صحة تسميتها بدول في مقال لاحق- ولم يقف عند حدود الدين أو اللون أو العرق أو الثقافة أو اللغة ولا حتى عند مستويات القوة في الاقتصاد والقدرات الصناعية والتقدم التكنولوجي وغيرها من مستويات الفرز والتصنيف في علوم المجتمعات، ولا يتسع السياق هنا لذكر حالات الدول التي فرضت منع التجول لمنع احتجاجات الجماهير.

 

وعرف العالم الغربي وريث امبراطوريات التاريخ الكبرى نظام منع التجول للمرة الأولى عام 1880 حينما فرض في مدينة أوماها كبرى مدن ولاية نبراسكا (وسط غرب) الولايات المتحدة الأمريكية واستهدف وقتها فئة الشباب الذين كانوا يثيرون القلاقل في المجتمع، وفي العام 1884 أعلن الرئيس الأمريكي بينجامين هاريسون منع التجول كأفضل نظام يمكن أن تطبقه الولايات المحلية لحماية الأطفال من رذائل الشارع، ثم خضعت شيكاغو لحظر التجول عام 1955 كأكبر مدينة أمريكية ترزح تحت هذا النظام، وفي العام 1960 طال منع التجول 60 مدينة من المدن الأمريكية الـ 110 التي يزيد عدد سكانها عن 100 ألف نسمة.

 

يعرِّف ديفيد هدسون منع التجول بأنه إجراء حكومي يتمثل بمنع فئات محددة من الناس أو كل الناس من الوصول للشارع لفترات محددة غالباً ما تكون في الليل،

وبعد ثلاثين عاماً من ذلك، أي في العام 1990 ارتفع عدد المدن الأمريكية التي يزيد عدد سكانها عن 100 ألف شخص إلى 200 مدينة من بينها 150 مدينة خاضت تجربة منع التجول، وفي العام 1996 أعلن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون فرض منع التجول لحماية الأطفال في شوارع أمريكا من اعتداءات المراهقين.

 

أما أوروبا، فقد عرفت منع التجول قبل عصور النهضة وتحديدا عام 1068 يوم فرضه أول ملوك النورمان في بريطانيا وليام الفاتح ليحد من قدرة الإنجليز على تنظيم الاحتجاجات ضد حكمه، وكان ذلك تحت شعار منع انتشار الحرائق، حيث كان الناس يجبرون على إطفاء النيران والتزام منازلهم عند الساعة التاسعة ليلا، وحتى يومنا هذا مازالت أجراس بعض الكنائس تقرع في ذات الموعد الذي كانت تقرع فيه إيذاناً ببدء حظر التجول.

 

بل إن بعض الدول الأوروبية الكبرى استخدمت منع التجول كستار تختفي تحت عتمته لتخرج عما ترفعه من مبادئ وما تعليه من مفاهيم، فهذه فرنسا البلد التي انطلق منها ثلاثي القيم "حرية، إخاء، مساواة” تنكرت لمبادئ ثورتها الشهيرة وأعادت انتاج ثقافة العصور الوسطى من بوابة منع التجول، ففي تشرين أول / أكتوبر عام 1961، فرضت الشرطة الباريسية حظر التجول على المهاجرين الجزائريين الذين ردوا بمظاهرات غاضبة قمعتها الشرطة الفرنسية فقتلت منهم المئات وأثارت عاصفة من الاحتجاج دفعت حكومة اليمين الجمهوري إلى فرض منع التجول على كامل باريس.

 

أما دولة الاحتلال في فلسطين، فما زالت تمارس منع التجول على الفلسطينيين في كل المناسبات. ومنذ أيامها الأولى ما زال صوت الناعق يدعو في مكبرات الصوت أن "يفرض عليكم نظام منع التجول ومن يخالف يعاقب".

  

كيف أصبح منع التجول نظاماً في عهد كورونا؟

يعرِّف ديفيد هدسون منع التجول بأنه إجراء حكومي يتمثل بمنع فئات محددة من الناس أو كل الناس من الوصول للشارع لفترات محددة غالباً ما تكون في الليل، ورغم أن هذا التعريف لم يحدد أسبابا موجبة لفرض منع التجول، إلا أن التجربة الإنسانية الممتدة عبر تاريخ فرضه أوضحت الحالات التي تلجأ فيها الحكومات والدول إلى فرض هذا النظام كشكل من أشكال احتكارها لممارسة السلطة، فهو بكل الأحوال يحقق غايتين مرتبطتين معاً غالباً هما العقوبة على ما فات والاحتراز والتحسب من وقوع الأسوأ فيما هو آت.

 

وفي ظل انتشار جائحة مرض فيروس كورونا المستجد "كوفيد 19” لجأت الكثير من الدول إلى إجراءات تقييد للحركة أطلق على كثير منها نظام منع التجول، وتمثل الحالة التركية نموذجاً لافتاً للتعريف بقواعد منع التجول، فقد فرضته وزارة الداخلية أولاً على من تقل أعمارهم عن 20 عاما وتزيد عن 65، ثم عدلت الإجراء لتستثني من فئته الأولى من تتراوح أعمارهم بين الـ 18 و20 عاماً بشرط أن يكونوا من العاملين أو المتطوعين في الرعاية الصحية ومن يعملون في الزراعة الموسمية، ثم فرضته في أيام محددة على ولايات محددة هي تلك التي ينتشر فيها الوباء وتكثر فيها الإصابات والوفيات.

 

وحددت وزارة الداخلية عقوبة تصل إلى السجن لعام واحد وغرامة مالية تبلغ 3000 ليرة (450 دولار) على كل من يخترق منع التجول، وبكل الأحوال فإن هناك خمس خصائص عامة يمكن الحديث عنها تجعل من منع التجول منهجاً عاماً لإدارة الأزمات رغم الفوارق الجوهرية في دوافع اللجوء إلى هذا النظام ومسبباته وهي:-

 

١- تفرضه السلطة العليا ضمن صلاحياتها في الإدارة والسيادة.

 

٢- المستهدفون منه محددون بشكل واضح فقد يكونون شريحة عمرية أو جندرية أو عرقية وقد يكون المجتمع بأسره مشمولاً بهذا الإجراء.

 

٣- غير محدد الزمن، إذ يمكن أن يرتبط بفترة معلنة سلفا محددة البداية والنهاية وقد يخضع لإشعار الآخر وهو الذي يجري غالبا.

 

٤- جزاء خرقه معروف ومحدد بالحبس والغرامة ويرتبط في الحالات السياسية بإجراءات عنيفة تصل حد القتل.

 

٥- إجراء دستوري منصوص عليه بالدستور أو القانون العام الذي يمنح الدولة الحق بتقييد الحريات بالقانون، كفرض الحجر الصحي وإجراءات منع السفر للتعامل مع الطوارئ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.