شعار قسم مدونات

"غريزة الجائعين".. كيف تحدد الأديولوجيات المنتصرة عبر التاريخ؟

blogs مقهى

"الجوع كافر".. لابد أن هذا المثل العربي الشائع مر على مسامعنا في يوم من الأيام ولا يخفى أيضًا علينا ما يعنيه فالإنسان الجائع وحش كاسر إذ أن الجوع يهدد الوجود الإنساني والإنسان مفطور على الصراع من اجل البقاء فالجائع يفعل أي شيءٍ من اجل بقاءه لذلك وصف الجوع بأنه كافر فهو يغير حتى الإنسان المستقيم ويضرب أيديولوجياته الفكرية وعقائده فالمسألة هنا ضرورة ملحة تتعلق بالبقاء عندها يسقط كل شيء آخر يقال عنه "أخلاقي" وتتعرى الأيديولوجيا ويبرز ضعفها إذا ما تصادمت مع الغرائز الإنسانية، لكن السؤال هنا هل للجوع أو الحاجات الغريزية بصورة عامة ذلك التأثير الذي يسقط إمبراطوريات ويسمح ببناء جديدة؟

هل يؤثر على الأفكار السائدة في دول ما حتى لو كانت هذه الدول تؤمن بمبادئ قوية قد طُبعت اجتماعيًا وأصبحت على لسان الكبير والصغير يرددونها منذ نشأتهم ويؤمنون بها؟ للإنسان سلم من الاحتياجات يبدأ من المأكل، المشرب، السقف الذي يأويه، الجنس، الاجتماع والحرية إلى آخر هذه الاحتياجات التي تميز الإنسان في وجوده كأنسان، فالنظام الاجتماعي القائم يجب أن يلبي هذه الاحتياجات كضرورة أساسية إذا أراد أن يبقى ويستمر وإذا أراد للفكرة القائم عليها ان تستمر بصفتها الخير الأسمى والحل الوحيد للأمة. يمكن أن نحدد من نظرة للتاريخ السياسي وبالاعتماد على بعض ما قاله المفكر الألماني "اريش فروم" في كتابه "ما وراء الأوهام" عدة عوامل تعد أساسية للتغيير الاجتماعي والسياسي لحضارة ما.

العامل الأول هو أن يكون النظام الاجتماعي الحالي قد فشل بتلبية حاجيات الإنسان بحيث أن وجوده يتعارض مع وجود الإنسان أو استمرار وجوده ينفي وجود الإنسان مستقبلاً أو أن هذا النظام لبى احتياجات لا تعد بصورة أساسية ضرورية للبقاء الإنساني كما فعل نظام ما بعد ٢٠٠٣ في العراق أي أنه تحت شعار "الديمقراطية" كحرية أساسية حُرِم منها الشعب العراقي لفترة طويلة تجاوز كل بقية الاحتياجات الإنسانية فالشعب جائع بلا مأوى ولا يملك أبسط الخدمات لكن مع ديمقراطية وحرية باختيار من يسرق رغيفه في الانتخابات..

أفضل مثال يمكن أن يوضح ما سبق ذكره هو التغيير السياسي والاجتماعي الذي حصل في ألمانيا عند دخول الاشتراكية القومية (النازية) إليها. لقد ساهم في هذا التغيير عدة عوامل أساسية منها الانهيار الاقتصادي الذي ضرب الأسواق العالمية

إن مثل هكذا أنظمة كثيرة ولا يصعب الحصول على نموذج منها في صفحات التاريخ، مثلاً فرنسا العصور الوسطى كانت توفر حرية الممارسة العبادية للكاثوليك وجعلت تلك الممارسات رسمية في دستور الدولة حتى إنها اضطهدت بقية الفرق الدينية والشواهد هنا كثيرة على أفعال إجرامية بحق اناسٍ ذنبهم الوحيد انهم ليسوا على مذهب الدولة الرسمي، إلا أنها وفي الوقت نفسه لم توفر لهؤلاء الكاوثوليك الفرنسيين أي حقوق فكانت طبقة عامة الشعب محرومة من التمثيل في الحكومة وهذا الحق مقتصر على الكهنة وطبقة النبلاء اضافة إلى أن أبرز مقومات الحياة كانت مسلوبة منهم إلى أن حدث ما حدث وثارت الطبقى الوسطى تحت تأثير عصر التنوير وفلاسفة أمثال فولتير، روسو، مونتسكيو وانتهت الملكية الفرنسية.

أما العامل الثاني هو أن يلبي النظام الجديد الحاجات الإنسانية بصورة أفضل من سابقه، أي أن تتوافق أيديولوجيا هذا النظام مع سبل التطوير القومي للأمة بحيث يتوقع الناس هنا حالة اقتصادية أفضل مما سبق فتراهم والحالة هذه من أشد المؤيدين لهذا التغيير، لا نبتعد عن مثالنا السابق ونقول أن الطبقى الوسطى من الدهماء في فرنسا التي لم تتذوق طعم التنوير ولم تقرأ العقد الاجتماعي لروسو أو الرسائل الفلسفية لفولتير ثارت مع طبقة المثقفين جنباً إلى جنب ورفضت الحكم الثيوقراطي-الملكي، فدغدغة المشاعر الدينية لم يعد كافياً بعد لكي يقبل هؤلاء شكل الحكومة الحالي أو يسددوا الديون الناجمة عن حرب التحرير الأمريكية كضرائب تفرض عليهم مع الضعف الاقتصادي الذي كان سائداً في تلك الفترة. لقد الفشل النظام الموجود باختصار أن يصل إلى أرضية مشتركة مع احتياجاتهم الأساسية ولم تعد ممارسة الشعائر الدينية كافية لأسكات تلك الأفواه الجائعة.

عندما يتوفر هذين العاملين وبأقلية مثقفة كان من الممكن أن يتغير أي نظام في التاريخ مهما كان مستوى الدهماء الثقافي، توجهاتها الدينية أو الفكرية.. لكن النظام الجديد المقبول في مجتمع ما سيصطدم بالعادات والأخلاق التي فرضها النظام السابق التي تصبح الآن مادة ديناميتية قابلة للانفجار حينها سيكتب النظام الاجتماعي الجديد أخلاقياته وعاداته على إنها أخلاق جوهرية للبشرية جمعاء وستتكيف هذه الأخلاقيات الجديدة مع الأفكار الموجودة سابقاً في هذا المجتمع (كالأفكار الدينية مثلاً) لينتج هذا الاندماج الطبع الاجتماعي الجديد الذي يسيطر على الحشود ويقودهم في الاتجاه الذي يضمن بقاء التنظيم الجديد.

إن أفضل مثال يمكن أن يوضح ما سبق ذكره هو التغيير السياسي والاجتماعي الذي حصل في ألمانيا عند دخول الاشتراكية القومية (النازية) إليها. لقد ساهم في هذا التغيير عدة عوامل أساسية منها الانهيار الاقتصادي الذي ضرب الأسواق العالمية في العقد الثاني من القرن السابق حيث أن المارك الألماني أصبح لا يساوي شيء وبعض الأحيان يستخدم للتدفئة بأن يحرقه الناس بدل الحطب في الجو البارد، هنا برزت النازية على أنها النظام المنقذ بعد فشل الرأسمالية الغربية والطريقة الديمقراطية في الحفاظ على ألمانيا وبدت الفاشية كأنها الحل الوحيد لهذا الانهيار لدى عامة الشعب الألماني، انحاز الناس لها بالتأكيد بعد أن ذاقوا مرارة الفشل الرأسمالي الديمقراطي، فلولا هذا الانهيار المفاجئ للأسواق لربما لم يصعد هتلر إلى المستشارية الألمانية ولم تفقد البشرية وبصورة مؤسفة ملايين القتلى في الحرب العالمية الثانية. إضافة لذلك فأن الوجه القومي للاشتراكية ساعد وبصورة كبيرة على انتشارها، فألمانيا كانت لا تزال تعاني من خيبات معاهدة فرساي والعقوبات الجائرة المفروضة من قبل القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى التي اعتبرتها المسبب الرئيسي لتلك الحرب، لم يتم تفويت هذا الأمر بالتأكيد ولم تستطع ألمانيا نسيان هذه الإهانة أو نسيان تاريخها القومي خاصة مع الإرث البروسي المتشدد الذي سيطر على ألمانيا منذ الحرب البروسية -النمساوية (١٨٦٦م).

لا ننسى أيضاً أن رتب الجيش وتنظيماته كانت على الطريقة البروسية القديمة وحتى خسارة الحرب العالمية الأولى لم يجعل المؤسسة العسكرية الألمانية تنسى مجدها السابق. خلاصة القول هنا أن الشعب الألماني تقبل الفكرة النازية خلال هذه الفترة بالتحديد وليس في سابقاتها على الرغم من أنها تأسست في بدايات العشرينيات إلا انها لم تصل إلى تحقيق أغلبية برلمانية إلا نهايات ذلك العقد بعد أن رأى بها خلاصاً من الواقع الاقتصادي السيء وأنها كانت من ناحية أخرى وسيلة لاسترداد الرايخ الألماني والأراضي الألمانية التي انتزعت عنوةً بعد مؤتمر فرساي.. قُبِلت النازية وصعد هتلر إلى السلطة في بدايات العقد الثالث من القرن المنصرم وبالفعل حقق نجاحات اقتصادية عن طريق مشاريع عدة أهمها خطة ربط المدن الألمانية معاً بشبكة من طرق النقل السريعة اذ تمكن هذا المشروع وحده من تعيين عدد لا يستهان به من العاطلين عن العمل.

ببساطة لقد حقق هتلر ما وعد به إلى حدٍ كبير وكانت حكومته تلقى تعاطفاً في تلك الفترة من حكومة المحافظين برئاسة تشامبرلين في بريطانيا حتى أنها تنزلت له عن تشيكسلوفاكيا وتمكن من توحيد النمسا وألمانيا كأول مرة تتوحد فيها الشعوب الناطقة بالألمانية. هذه الإنجازات قبل نشوب الحرب العالمية الثانية جعلت الألمان يتعاطفون إلى حد ما مع هذه الأيدولوجية الجديدة فهي قد انقذتهم من انهيار اقتصادي ولامست الجزء القومي من قلوبهم وحقق هتلر ما وعد به حينما قال "أعطني عشرة أعوام وسأغير وجه ألمانيا إلى الأبد"، إلا أن رايخ الالف عام لم يصمد المدة التي كانت مقررة له..

أصبح جلياً الآن أن أي تغيير سياسي يمكن أن يتم تقبله في شعب ما، ما دام هذا التغيير قادراً على أشباع الجائعين من أبناء ذلك الشعب مهما كانت الأيديولوجيا التي يحملها وإن الأنظمة القائمة مهما كانت عاتية معرضةَ ومهما طبعت أفكارها في الشعوب المغلوب على أمرها فأنها تتعرض لهزة عنيفة عندما تلامس الحاجيات الإنسانية الأساسية وبدون تدخل يصلح الموقف ستفقد حتماً وجودها وتصبح اثراً بعد عين وكما قال ليون تروتسكي "الثورة مستحيلة حتى تصبح حتمية" ولعل هذه الحتمية قد تحققت الآن في شعوبنا العربية حيث تتجدد الثورة بصورة مستمرة في لبنان والعراق رداً على الوضع الاقتصادي المتردي هناك ولا شك أن حتمية الثورة ستنتصر على دكتاتوريات الفساد، هكذا هو ديدن التاريخ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.