شعار قسم مدونات

جرائم المعلوماتية.. مستقبل أكثر خوفا

blogs هاتف

لم يكن مفهوم القرية الكونية الذي أطلقه عالم الاجتماع الألماني "جون ماكلوهان" عندما اكتشفت الموجات القصيرة التي مكنت الاذاعات من إطلاق برامجها عبر حدود الدول والقارات يعني بالتأكيد مفهومنا اليوم عن وســائل الاتصال الحديثــة التي تحولت من أدوات لتواصل الاجتماعي وتبــادل المعلومات ونقل الأفكار إلى وسائل لتضليل وفبركة المعلومات والإساءة والتشهير وانتهاك خصوصيات الآخرين.

  

وفي خضم هذا الاستخدام الخاطئ لتلك الأدوات تراجعت في ظني اليوم كثير من القيم و الاخلاق الإنسانية في مجتمعاتنا البشرية وأصبحنا نرى امتهانا واضحا لكرامة الإنسان عبر تداول الصور ومقاطع الفيديو التي تجسد القتل و الموت والدمار الذي نمارسه كبشر ضد بعضنا البعض وهو الأمر الذي أثار في يوم ما مخاوف العلماء عندما حذرت عنه قبل سنوات طويلة عالمة الاجتماع البريطانية "آلان" في إحدى محاضراتها عندما ذهبت للقول بأن كثرة استخدام الأنسان للآلات الإلكترونية قد يجعلها تنقل إليه برودها فيصبح أكثر تبلدا في مشاعره وأحاسيسه ولم تكتف عالمة الاجتماع البريطانية عند ذلك بل ذهبت للقول بأن وسائل الاتصال الحديثة قد تؤدي الى ذوبان كثير من القيم الموروثة لتحل محلها قيم جديدة وقد يتراجع.

  

الدين نفسه في حياة الناس

كل تلك المظاهر السالبة عن إرهاصات العولمة وتجلياتها بدت في اعتقادي اليوم أكثر وضوحا من ذي قبل في أعقاب عدد من حوادث الاختفاء الغامض التي أثارت ردود فعل الرأي العام في الشارع السوداني واكتشفت السلطات بعد موجة الشائعات التي اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي في تأويل تلك الحوادث مدى خطورة تلك الوسائل التي مكنت جمهور عريض من الأغبياء من التلاقي والتداول فيما بينهم عبر عالم افتراضي أخبار كاذبة تعتبر تضليلا للرأي العام وتهديدا للأمن العام.

 

كثير من المخاوف التي أثارها علماء الاجتماع وكتاب المستقبليات قبل سنوات طويلة عن إرهاصات العولمة وتجلياتها على مجتمعاتنا البشرية باتت اليوم واقعا ملموسا وتجلت تأثيراتها السلبية

ورغم تلك الإجراءات الصارمة التي اتخذتها السلطات حينها بملاحقة المتورطين وتفعيل قوانين جرائم المعلوماتية إلا أنه مازال في رأي الخطر قائما حتى اللحظة في تحول تلك الوسائل من نعمة الى نقمة في كون أن عقولنا البشرية لم تدرب ذكاءها لمواكبة التطور العلمي والتكنولوجي المتلاحق الذي أبدعته وابتكرته قلة من العقول البشرية.

 

ومنذ ظهور مفهوم العولمة الذي اختزل الزمن وقلص مساحات التواصل الإنساني أصبحنا نلحظ أن كثير من القيم البشرية قد تراجعت أمام تيار العولمة وأصبح العالم أكثر غباء و تبلدا وسطحية من عالم الكاتب "راي برادبوري" في روايته 454 درجة فهرنهايت التي يصف من خلالها مجتمع المستقبل الذي يتعلق بالشاشات الإلكترونية التي صارت تتحكم في حياته ويتهلل فرحا عندما يقوم رجال الأطفاء بإحراق الكتب، ويبدو أن "راي برادبوري" حاول من خلال خياله الجامح في روايته تلك التي كتبها مع أول ظهور للكمبيوتر أن يرسم صورة مستقبلية للمجتمع البشري في ظل التكنولوجيا كما ولو أنه سافر عبر الزمن من الماضي الى المستقبل ليكتب روايته عن عالمنا اليوم ويعود مرة أخرى الى حاضره.

 

كثير من المخاوف التي أثارها علماء الاجتماع وكتاب المستقبليات قبل سنوات طويلة عن إرهاصات العولمة وتجلياتها على مجتمعاتنا البشرية باتت اليوم واقعا ملموسا وتجلت تأثيراتها السلبية في أنماط ومعايير سلوك الأفراد والجماعات وتراجع كثير من القيم الإنسانية والأخلاقية التي كانت تحكم سلوك المجتمعات البشرية وأصبح المستقبل أكثر خوفا أمام العلماء الذين باتوا أكثر قلقا تجاه تلك المتغيرات التي يرونها تشكل تهديدا حقيقا للحياة البشرية على كوكب الأرض ولم يعد أمام حكومات الدول سوى استحداث مزيد من القوانين في مواجهة مجتمع المعلوماتية لمواكبة كثير من الجرائم المستحدثة في عالم افتراضي مجهول لا تحده حدود أو تضاريس جغرافية.

 

وفي الوقت الذي تتصاعد فيه إحصاءات جرائم التحايل والسطو على أرصدة البنوك والمؤسسات التجارية العالمية في دول مثل اليابان وأمريكا فإن مثل تلك الجرائم ينحصر أغلبها في مجتمعنا السوداني في جوانب أخلاقية فردية وهو ما يلقى المسؤولية على عاتق المؤسسات الاجتماعية ويطرح عددا من التساؤلات حول دور الرقابة الاسرية ودور برامج التثقيف والتوعية عن الاستغلال الامثل للتكنولوجيا وكيفية توظيفها بما يحقق هدف مفهوم القرية الكونية بحسب تصور عالم الاجتماع الألماني "جون ماكلوهان".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.