شعار قسم مدونات

العمارة عبر التاريخ.. كيف تحولنا من الحجر إلى الزجاج

blogs أبراج

بدأت العمارة بصفتها استجابة لحاجات عدة، ربما كانت أولاها الحاجة للمأوى، لبيت يزود ساكنيه بالدفء والأمان والحماية؛ ومع تطور الحضارات والمجتمعات، تطورت العمارة وتقدمت هي الأخرى، وظهرت حاجات عديدة جديدة، مثل الحاجة للتعبير عن دوافع وحوافز معينة، أو التعبير عن قوة المدينة أو الدولة العسكرية والاقتصادية، وتخليد ثقافة المجتمع ووقائعه المهمة من خلال الأدب والفن والعمارة.

  

وكان الحجر من المواد الأساسية التي استخدمت في البناء منذ بدايته، ومنذ أن توفرت التقنية اللازمة للقيام بذلك؛ طبعاً لم يكن الحجر متوفراً في كل مكان، لذا ظهرت مواد بديلة عنه، مثل الطين والخشب، إلا إن أياً منها لم يتمكن من استبدال الحجر والقيام محله، واستمر الحجر في كونه أشد المواد جاذبية، وأكثرها طلباً، ونُقل من مكان لآخر لاستعماله؛ وربما كان ذلك حاله بسبب إمكانيته الممتازة في الاستجابة للحاجات التي ذكرت سابقاً.

 

الحجر مادة قوية، وصلابته ومتانته تعطي للمعماري إحساساً بالقوة والثقة، كما إن للمادة حضور قوي، وتوحي إلى الدوام والاستمرارية في الزمن، فصلابته تجعله مقاوماً للظروف البيئية والزمنية والحروب وأكثر المواد قدرة على البقاء، وتروي عطش من يرغب في بناء عمارة خالدة؛ ولذلك شيدت العمارات التاريخية معابدها وقصورها بالحجر، واستوردته من مناطق أخرى عند عدم وجوده؛ فالحجر ساعد المعماريين على إنشاء مبانٍ أكبر وأعلى وأقوى، وأصبحت المادة وسيلة لتخليد ذكريات الأمة وتثبيت وقائعها في الجدران.

  

الجدران الحجرية ليست قوية من ناحية فيزيائية فقط، بل من الناحية المعنوية أيضاً، فالجدار الحجري يعطي إحساساً بالحماية والأمان، بسبب سمكه وقوته، وهذه تمثل جوهر فكرة العمارة التي ابتدأت مأوى للإنسان؛ بالتالي أصبح الجدار الحجري تمثيلاً للعمارة: فهو يمثل حضورها، ويمثل خاصية المأوى، ووظيفتها التخليدية والتذكارية.

    undefined

  

ورغم أهمية الحجر ومكانته، فإن الجدار المبني به يضم غيره من المواد والعناصر؛ فالعمارة التاريخية رأت فتحات الشبابيك، على أنها ثقب أو خرق في الجدار الحجري، وقد تم وضعها لتلبية الحاجات البيئية للإنسان من توفير الضوء والتهوية الطبيعيين، التقنية اللازمة لعمل الشباك الزجاجي لم تكن متوفرة وتطورت ببطء نسبياً، ولذلك كان الزجاج عنصراً ثانوياً في التكوين المعماري للأبنية التاريخية؛ الفتحات لم تُرَ بصفتها عناصر مستقلة ورئيسة، بل مثلت في أفضل الأحوال "غياب الجدار"؛ الزجاج لم يملك القدرة على توفير المأوى، ولم يكن قوياً ولا مادة متينة، ولأن خصائصه كانت عكس كل خصائص الحجر، فإنه كان يُنظر له من منظور "معكوس الحجر" وصارت فتحات الشبابيك "عدم وجود الجدار"، أو عدم وجود العنصر الرئيس بدل اعتبارها عنصراً جديداً؛ كانت الفتحات تمثل غياب العمارة وكل نواحيها ووظائفها، وللعمارة تمثيل واحد هو الجدار الحجري.

 

وربما بسبب قوة الحجر في التمثيل، وأهميته فوق أي مادة أخرى، وضع الفيلسوف الأمريكي جون ساليس كتاباً بعنوان "الحجر"، يتحدث فيه عن قوة المادة في التعبير خلال الطرز التاريخية، من منظور ظاهراتي، ويوضح بفلسفته الخاصة إمكانية المادة من تحقيق أهدافها في تمثيل وظائفها الرمزية والتقنية والتمثيلية.

 

التحول للزجاج

يضع المنظرون مؤشرات مختلفة على انتهاء العمارة التاريخية وبدء الحداثة، ويعد صعود التكنولوجيا إحدى هذه المؤشرات؛ إن تطور الصناعات المختلفة، كالمواد البنائية والزجاج من ضمنها، بدأ بتغيير شكل العمارة، ومثل ظهور بعض المباني مثل القصر البلوري في لندن عام 1851، لحظة معمارية مهمة، بصفته أول مبنى يتم إنشاؤه من الزجاج بهذا الشكل.

 

بعدها، ومع دخول القرن العشرين، ظهرت المباني التي تضم واجهات زجاجية كبيرة، بشكل أوضح، وتحدّت هذه المباني العديد من القيود البيئية والفيزيائية، وأصبح الزجاج مادة إنهاء رئيسة، ليس في المبان العادية فقط، بل في ناطحات السحاب والمصانع، وهي مبانٍ محكومة بقيود وظيفية وتقنية صارمة.

  

  

حتى هذه اللحظة يمكن وضع هذا التغيير كله تحت مظلة التقدم التكنلوجي وتبدو الأمور طبيعية؛ فالقفزات الهائلة في تقنيات البناء، قللت من حجم الهيكل الإنشائي، وانتفت الحاجة لأعمدة حجرية ضخمة، أو جدران سميكة لعزل الداخل عن الخارج، وتوفرت تقنيات تدفئة وتبريد الفضاءات دون الحاجة للجدار الحجري السميك أو الأعمدة الضخمة؛ ولكن ما فعله الزجاج هو ليس تمثيل هذه التكنلوجيا فقط، وإنما قام باستبدال الحجر تماماً.

  

يعد مبنى مثل الهرم الزجاجي في فناء متحف اللوفر في باريس، رمزاً لتحدٍ كهذا، فالهرم أكثر الأشكال استقراراً وقوةً في الطبيعة، وهو مرتبط بالذاكرة المعمارية العالمية بالأهرام المصرية القديمة، رمز الصلابة والدوام والثبات، والتي لا تكتمل صورتها بدون "الحجر"، المادة التي بنيت بها؛ وأن ترى مادة أخرى، مناقضة تماماً للمادة الأصلية، تحاول أن تقوم بنفس الوظائف، لأمر يستحق المشاهدة.

  

لآلاف السنين، كان الحجر يمثل العمارة، بصلابته وقوته، وأعطى الحجر صورة واضحة لما يجب أن تكون عليه العمارة، ومثل الحجر العمارة بشكل ممتاز، بجميع وظائفها، من توفير المأوى والحماية، وصلابتها ووجودها ودوامها خلال الزمن، فجميع هذه الخصائص كانت مُمثلة في الحجر بشكل ممتاز؛ أما اليوم، فإن مادة هشة وشفافة وضعيفة تقوم بوظيفة مادة قوية صلبة ثقيلة، خاصة بعد أن ظهرت مبانٍ مغلفة بالزجاج بشكل كامل؛ وأصبحت هذا المادة الجديدة (الزجاج) تمثيلاً عن المأوى والدوام والحضور أيضاً مثلها مثل الحجر.

  

لآلاف السنين، ارتبطت صورة العمارة بصلابة الحجر ووزنه وثباته، من حجارة الأهرام المصرية، ورُخام التماثيل الرومانية، إلى حجارة المعابد الصينية والهندية، وتشكلت هذه الصورة عبر تقنيات وطروحات بنائية ارتبطت بالنزعة الحِرفية للعمارة، ونظريات الجماليات للأقدمين، وفي جميعها الحجر عنصر لا يمكن الاستغناء عنه، ثم تأتي مادة رقيقة ضعيفة، تنافس على الصلابة والمتانة، وتحاول التعبير عن جميع هذه الخصائص وهي نقيض عنها، تحاول هذه المادة القيام بنفس الوظائف وهي كانت في أفضل الأحول "معكوس الحجر" أو "غياب العمارة"، تريد أن تعبر عن "وجوديته".

 

التكنلوجيا لم تقم فقط بتذليل صعاب البناء أو التخفيف من صعوبات الإنشاء وتوفير فضاءات مريحة، بل تحاول تغيير صورةً أخذت حيزاُ في المخيلة المعمارية البشرية لآلاف السنين، والغريب فعلاً أن ترى مادتين مختلفتين (متناقضتين حتى)، تؤديان نفس الوظائف، وتمثلان نفس الظاهرة (العمارة).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.