شعار قسم مدونات

كورونا جائحة عالمية أم انتهاء الرأسمالية؟!

blogs كورونا

لا زلت أذكر اليوم الذي سافرت فيه إلى اسطنبول مطلع هذا العام.. كم أبهرني انتعاش الحياة فيها، سحر الطبيعة مشَبَّع بضوضاء المدينة، خطىً متسارعة، أُناس يبدو عليهم الانشغال بالحياة والتعب منها أيضا.. تستطيع أن ترى شحوب الوجوه من فرط الحركة في هذه المدينة، وأن تلمس في تلك الوجوه لذةً مشبعة بكثير من هموم الحياة، ولكن بعد شهرين فقط، توقف العالم فجأة، كل شيء فيه أصبح متغيرا بين غمضة عينٍ وانتباهتها، كورونا يضرب الصين أولا ثم يستطير شرا على غيره من البلاد.. مطارات أغلقت، وجوه تقنَّعت، شوارع خلت من البشر، جوامع ومساجد أُوصِدَتْ أبوابُها، أسواق أقفلت، مؤسسات وشركات أفلست، باتت الناس في بيوتها بالكاد لا تخرج، توقفت المصافحات والزيارات واللقاءات، أسلوب حياة تغير بالكامل، حتى بدا أنه قد يبقى على هذا الحال، لكن هل هذه الحالة بسبب فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة؟ أم أننا نحتاج لأن نفتح أعيننا على أسباب أخرى؟!

الأمر أشبه بالصدمة، كتلك التي ذكرتها الكندية (نعومي كلاين) في كتابها "عقيدة الصدمة"، والذي يعتبر من أهم ما صدر عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية المطبقة من قبل المؤسسات والدول الكبرى في العالم، وبالتحديد عن نظام الرأسمالية، تجلَّى في عنوانها الصغير على غلاف الكتاب "صعود رأسمالية الكوارث". تستعرض الكاتبة تقنية "المعالجة بالصدمة"، والتي أشرفت عليها ومولتها وكالة الاستخبارات الأمريكية، حيث تستخدم على السجناء لتفريغ عقولهم من كل الأفكار السابقة، وتعبئتها بأخرى جديدة.

إن غياب العلماء العرب والمسلمين عن ركب التقدم العلمي، أفقد الأمة العربية والإسلامية كلمتها في البحث العلمي الذي يبرهن مدى تأثير هذا الفيروس من عدمه على الحياة بشكل عام، وعلينا بشكل خاص

ألسنا الآن في سجن كبير؟!، فالدول أغلقت حدودها الجوية والبرية والبحرية، وأمرت بالتزام البيوت وعدم مغادرتها، بل وقد يتعرض المخالف للحجر المنزلي للضرب في دول نامية، وللغرامة المالية أو الحجر الصحي في دول متقدمة أخرى. لماذا؟، لأنك إذا لم تفهم أنك في خطر الإصابة بالكورونا، فأنت خطر على الآخرين وقد يموت أحدهم بسببك أنت، أو عفوا بسبب فيروس تحمله قتل مئات الآلاف من البشر حتى الآن! قد يكون من السذاجة بمكان أن ننكر "كوفيد 19" وخطره، لكن نسأل سؤالًا منطقيا ونقول: هل حقًا يستحق هذا الفيروس كل هذا الخوف والإغلاق التام؟، ثم أليس في تاريخ البشرية جمعاء فيروسات أخرى وُجدت وقتلت كثيرا من البشر ولم تحدث حالة الهلع العالمي هذه؟!

في 13 من كانون الأول/ ديسمبر 2017 نشرت منظمة الصحة العالمية على صفحتها الرسمية مقالًا طبيا قالت فيه: "إن أكثر من 000 650 شخص يموتون كل عام جراء إصابتهم بأمراض تصيب الجهاز التنفسي وتتصل بالأنفلونزا الموسمية". عدد وفيات كبير لم نسمع عنه شيئا ذلك العام، مقارنة بأعداد وفيات هذا الفيروس، فقد تجاوز عدد الوفيات -حتى لحظة كتابة هذا المقال- جراء كورونا 249 ألف وفاة في العالم منذ ظهوره لأول مرة في ديسمبر بالصين، ألا يبدو هذا العدد طبيعيا جدا مقارنة بأعداد من يموتون كل عام بسبب الأنفلونزا الموسمية؟!

تقول منظمة الصحة إن ثلثي أعداد الوفيات سجلت في أوروبا وحدها، أوروبا تلك القارَّة العجوز التي دعت الرئيس الإيطالي (سيرجيو ماتاريلا) يحذر من "خطر وجودي" يستهدف بلاده بسبب الأزمة السكانية المتنامية في إيطاليا؛ حيث بلغ عدد المواليد 435 ألفا عام 2019، بانخفاض خمسة آلاف عن عام 2018، وهو أدنى مستوى تم تسجيله في إيطاليا مقارنةً يإجمالي عدد الوفيات 647 ألفا عام 2019، بزيادة حوالي 14000 عن 2018. ثم ما أدراك أصلا أن الوفيات التي تحدث الآن هي بسبب هذا الفيروس وحسب؟، خصوصا وأنه إلى الآن لم تُحدد ماهيته وكيف ينتشر، فتارة عبر الرذاذ بالتواصل المباشر مع المصاب، وتارة يخرج علينا بحث طبي جديد يقول أنه ينتشر عبر الهواء.. ألا يحق لنا أن نتساءل فنقول: إن البشر الذين يموتون الآن يفترض أن يموتوا على أيّة حال!، أعداد البشر الذين هم على قيد الحياة في هذا العالم نحو أكثر من 7.75 مليار نسمة، أليس من الطبيعي في هذه الحياة أن يموت بعض من البشر في كل ثانية ودقيقة؟، وتستقبل الحياة مواليدًا جددًا يولدون على الجانب الآخر في كل دقيقة؟

تقول (نعومي كلاين) في كتابها: "يقوم مذهب رأسمالية الكوارث على استغلال كارثة، سواء كانت انقلابًا، أم هجومًا إرهابيا، أم انهيارًا للسوق، أم حرباً، أم تسونامي، أم إعصارا، أو حتى وباءً، من أجل تمرير سياسات اقتصادية واجتماعية يرفضها السكان في الحالة الطبيعية". مستشهدة في ذلك بنظريات (ميلتون فريدمان) "عرَّاب الرأسمالية"، والعالِم الاقتصادي الأمريكي من أصل يهودي، وأحد أهم الوجوه البارزة في المدرسة الليبرالية للاقتصاد، والذي قال: "وحدها الأزمة الواقعة أو المنظورة هي التي تحدث تغييراً فعلياً". يستلهم فريدمان فكرة الصدمة وكيفية تطبيقها على شعب كامل بحيث يكون جميع السكان في حالة من الصدمة الجماعية؛ لتأتي الحلول من أذكياء الرأسمالية وتَفرِضُ على المصدومين النظام الجديد، نظامٌ لن تعرف الشعوب بطبيعة الحال ما إذا كانت لهم المصلحة فيه أم عليهم، لكنها لن تملك الإرادة في رفضه أو تقييمه على الأقل، كل ما يهم أن تخرج الشعوب من سجنها الكبير مهما كانت الحلول أو الأنظمة الجديدة.

ولعل ما كتبه وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في مقاله بصحيفة وول ستريت جورنال عن هذا النظام يزيد الأمور وضوحًا حيث قال: "إن جائحة كورونا ستغيّر النظام العالمي للأبد". كل هذا وأكثر.. يجعلنا نتساءل، هل فيروس كورونا جائحة عالمية حقًا؟، ثم إذا سلَّمنا بذلك، هل يستحق فعلًا كل هذه الإجراءات الصادمة؟! لقد فقد كثير من البشر أعمالهم حتى هذه اللحظة، وتعالت الأصوات التي تقول إننا الآن نكتشف أن البشر يستطيعون العمل والدراسة من منازلهم، فلا داعي لكل تلك الرواتب والمكاتب، فالحياة مستمرة خلف السجون على أيّة حال، ألا يُنذر ذلك بتغيير قد بدأ أصلا وقد يبقى على ما هو عليه؟!

إن غياب العلماء العرب والمسلمين عن ركب التقدم العلمي، أفقد الأمة العربية والإسلامية كلمتها في البحث العلمي الذي يبرهن مدى تأثير هذا الفيروس من عدمه على الحياة بشكل عام، وعلينا بشكل خاص؛ بما يجعل الشعوب لا تثق إلا بما يصدِّره النظام العالمي الرأسمالي بكل إيجابياته وعلِّاته، حتى لو أمروا بالحَجْرِ في جُحْرِ ضَبٍ لفعلت الشعوب ذلك، علينا أن نكون مستعدين لنظام عالمي جديد ينسخ ما ألفناه سابقًا، لنتعود ونألف نظامًا آخر، ما دمنا تخلفنا عن إبداء رأي علمي، أو فرض نظام اقتصادي، وسننتظر طويلا إنتاجَ لقاح في ظل هيمنة النظام الرأسمالي على العالم بقوانين حفظ حقوق الملكية الفكرية، وبراءة الاختراع التي تجعل من الدواء حكرًا على صاحبه، مستفيدا من أرباحه أكثر من أي قيمة إنسانية أخرى، وستكون الكلمة العليا في وضع النظام الجديد للبؤرة التي يخرج منها هذا الدواء، سواءا أكان اشتراكيًا، شيوعيا أو رأسماليًا.

ما زلت في اسطنبول، التي تغيرت جمالياتها فلم تعد اسطنبول التي عرفتها بعد الآن، حالها كحال أغلب مدن العالم، أخرج بشكل يومي، أنتظر انفراجة قريبة، ملتزمًا تعليمات الوقاية من كورونا وقوانينها المستجدة، على الرغم من أنني لا أؤمن بكل هذا الخوف، نعم فيروس كورونا منتشر في الهواء، لكنه لا يستدعي كل هذا الهلع والإغلاق، ثمةَ خوف أكبر من ضباب نظامٍ جديد. كم من المُحزن أن ترى الخوف في وجوه الناس من حولك، أو عفوا! في عيونهم؛ فلم تعد ترى وجوهًا إلا وتكسوها أقنعةٌ بيضاء، اختفت معالم الضوضاء هنا، وبقِيَ سحر الطبيعة في هذه المدينة، سحرٌ لن تستطيع أن تميزه وحيدا في هذا العالم المغلق من كل شيء، كل شيء.. حتى من ابتسامة عابرة في الطريق.. قد يتصدق بها أحدهم عليك في يومك الروتيني المعتاد، أو الذي كان مُعتادًا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.