شعار قسم مدونات

المنفلوطي.. أديب البؤساء والأشقياء!

blogs المنفلوطي

امتلك الأدباء على مر العصور أساليبًا مختلفة وألوانًا متباينة لإنتاجهم الأدبي، وينبع ذلك من عوامل شتى؛ منها ظروف العيش والتربية وطبائع النفوس ومنابع استقاء العلم، والمدرسة الأدبية والشخصيات المؤثرة بحياة الأديب، وغيرها من العوامل، وأديبنا "مصطفى لطفي المنفلوطي" قد تميز بأدب فريد مبتكر في قصصٍ رائع، يصف الألم والبؤس ويمثل العيوب، بأسلوب عذب ولفظ قوي وبيانٍ جَزِل.

 

نشأ المنفلوطي في بيت عامر بالدين والفقه، توارث أهله قضاء الشريعة ونقابة الصوفية قرابة 200 سنة، فنهج المنفلوطي -الذي ولد عام 1876م بمحافظة أسيوط- نهج آبائه، فحفظ القرآن الكريم وتلقى العلم بالأزهر الشريف، وظهر ذكائه الفذ وروعة أسلوبه في باحات الأزهر فقربه الإمام محمد عبده، ثم بعدها تعرف على سعد زغلول، ليكونا أول شخصيتين يؤثران في حياة أديبنا، فمن خلالهما عمل فترة ككاتب في جريدة المؤيد، وعين بعد ذلك محررًا لوزارة المعارف عندما صار سعد باشا وزيرًا لها؛ وعندما تم تحويلها لوزارة العدل تقلد ذات المنصب، وبعد ذلك عُين بوظيفة كتابية بمجلس النواب من خلال سعد زغلول أيضًا.

   

عانى المنفلوطي في بداية عهده بالأدب، فعندما كان في الثالثة عشرة من عمره؛ كان مشايخ الأزهر يرون أن الإلمام بالأدب هو عمل من أعمال البطالة والعبث وفتنة من فتن الشيطان، وكانوا يَحولون بينه وبين الأدب ما استطاعوا، كالأب الذي يحول بين ابنه وبين نزعات الهوى والفتن، فيقول المنفلوطي "لم أكن أستطيع أن ألم بكتابي إلا في الساعة التي آمن فيها على نفسي وقليلًا ما كنت أجدها، وكثيرًا ما كانوا يهجمون مني على ما لا يحبون، فإن عثروا في خزانتي أو تحت وسادتي أو بين لفائف ثوبي على ديوان شعر أو كتاب أدب؛ خيل إليهم أنهم قد ظفروا بالدينار في حقيبة السارق…".

 

تميز أدب المنفلوطي بروعة البيان وعمق التعبير، وأنه ما احتذى حذو أحد من الأدباء؛ بل كان له أسلوبًا خاصًا فريدًا، فيقول الأستاذ عمر الدسوقي في هذا الصدد أن المنفلوطي استطاع أن يبتدع طريقة جديدة في الكتابة الأدبية، طريقة تخالف تلك التي اشتهرت بين كتاب وأدباء القرن ال19؛ الذين كانوا يحفلون بالسجع وألوان البديع ويغلب على أساليبهم محفوظهم من الأدب القديم، فيرددون تشابيهه وكناياته ومجازاته وإن كانت لا تناسب الموضوع والبيئة والعصر.

   

  

وأبرز ما ميز أدب المنفلوطي أنه يصف البؤس والشقاء، ويصور حال المكلومين والتعساء في صور أدبية بديعة تتفجر من أعماق الألم، فكان يحب مطالعة شعر الهموم والأحزان وقصص البؤساء ومواقف الشقاء، وذلك لثلاثة أسباب؛ أولهما: لأنه كان يرى أن الدموع هي مظهر الرحمة في نفوس الباكين، وأن الباكين هم أصدق الناس حديثًا عنها وتصورًا لها، وثانيهما: لأنه كان يرى شبهًا قريبًا بين حياته وحياة أولئك البائسين والمنكوبين؛ فلما بكى لبكائهم وجد في مدامعهم شفاءً لنفسه، والثالث: لأنه كان يرى جمال العالم كله في الشعر وأن الشعر هو تفجر من صدع الأفئدة الكليمة، فجرى من عيون الباكين مع مدامعهم، وصعد من صدورهم مع زفراتهم.

  

واختلف الأدباء على بكاء المنفلوطي الأدبي، وأدلى الكثير بآرائهم حول كتاباته الحزينة، منهم من أرجع ذلك إلى أن البكاء كان زيًا من أزياء الأدب الحديث حينذاك، وشغِف به الكتاب والشعراء لأنهم رأوه يتلاءم مع حال الشرق، وحرمانه الحرية ومكابدته الأذى والضيم، فيقول د/ طه حسين، أنه كان البدع في أيام صباه تَكلُف البؤس وانتحال سوء الحال، والافتتان في شكوى الناس والزمان.

  

فعصر المنفلوطي كان يعاني الكثير على يد الاستعمار وأعوانه، وقد التأم في نفس المنفلوطي بؤس أمته ببؤس نفسه، فتحول بوقًا لهذا البؤس يبكي في كتاباته ويئن، كما قال د/شوقي أبو ضيف، في حين أن العقاد رأى أن المنفلوطي لم يكن غريبًا أو متطرفًا في بكائه، بل عاديًا وبسيطًا، ذلك لأنه لا يبكي إلا أمام تلك المصائب التي يحس بها الرحماء والقساة، ويتلاقى عليها الأعداء والأصدقاء، لأنها مصائب جسيمة يسمعها الأعمى ويبصرها الأصم.

  

وبين هذا وذلك.. فإن المنفلوطي كان صادقًا في حزنه وشقائه، وشعر بمرارة الحياة في أفواه المساكين، ورأى مواقع سهام الدهر في أكباد البائسين والمنكوبين، فما كان همه إلا أن يبكى هؤلاء ويكتب عنهم، ويترك لنا إنتاجًا أدبيًا فريدًا؛ أبرزها كتاب النظرات، وكتاب العبرات، اللذان تتنوع فصولهما بين النقد والاجتماع والقصص، وأبرز ما ترجمه من الأدب الفرنسي: رواية تحت ظلال الزيزفون (ماجدولين) لألفونس كار، ورواية في سبيل التاج لفرانسو كوبيه، وهي أعمال بها من البؤس والشقاء ما بها، وقد صاغها بأسلوب بليغ عذب لم يتقيد فيه بالأصل، ورواية الفضيلة لبرنار دي سان بيير، ورواية الشاعر لأدمون رستان.

  

يقول المنفلوطي عن البكاء: "ليتك تبكي كلما وقع نظرك على محزون أو مفؤود، فتبتسم سرورًا ببكائك، واغتباطًا بدموعك، لأن الدموع التي تنحدر على خديك في مثل هذا الموقف إنما هي سطور من نور، تسجل لك في تلك الصحيفة البيضاء: أنك إنسان".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.