شعار قسم مدونات

هل غيَّرت جائحة كورونا العالم؟

blogs كورونا

منذ أربعة أشهر، وتحديداً يوم أُبلِغَ عن ظهور فيروس كورونا المستجد (COVID-19) لأول ‏مرة بمدينة ووهان الصينية يوم 31 كانون الأول/ديسمبر 2019، والعالم يموج على عدة أصعدة يحمل معه تداعيات كبيرة سببتها جائحة هذا الفيروس، تداعيات قد تفتح أبواباً لحركة تغيرات كبيرة حول العالم، وفي هذه الكلمات نرصد أهم ملامح هذه التغيرات المحتملة:

الاتحاد الأوروبي:

تعود فكرة الاتحاد الأوروبي إلى خمسينيات القرن الماضي مع معاهدة روما عام1957م التي شكلت نواة التكتل الاقتصادي الأوروبي؛ بيد أنه لم يتأسس ككيان حقيقي إلا وفق معاهدة ماستريخت الموقعة في 7شباط/فبراير عام 1992م، ويضم الاتحاد 27 دولة أوروبية. وتقوم أهم مبادئ الاتحاد الأوروبي على نقل صلاحيات الدول القومية إلى المؤسسات الدولية الأوروبية، مع بقاء هذه المؤسسات محكومة بمقدار الصلاحيات الممنوحة من كل دولة على حدة، كما أن للاتحاد الأوروبي نشاطات عدة؛ أهمها كونه سوقاً موحداً ذا عملة واحدة هي اليورو الذي تبنت استخدامه19دولة من أصل الـ28 الأعضاء (قبل خروج المملكة المتحدة)، إضافة إلى أنه له سياسة زراعية مشتركة وسياسة صيد بحري موحدة، وقد حصل الاتحاد الأوروبي في 12 تشرين الأول/أكتوبر 2012م على جائزة نوبل للسلام لمساهمته في تعزيز السلام والمصالحة والديمقراطية وحقوق الإنسان في أوروبا.

هذا الكيان الذي هُيِّئ للجميع أنه كيان قوي لا يتزعزع، وأنه أمل العالم أجمع لدرجة أن اعتبرت الدول الأعضاء أن الاتحاد قد أُنشئ منذ 1957م، وبموجب ذلك احتفلت عام 2007م بمرور 50 عاماً على إنشاء الاتحاد وفق معاهدة روما.  هذا الكيان القوي في حقيقته ليس بتلك القوة التي تصورها أعضاؤه أولاً والعالم ثانياً؛ وقد بدأت صورته تهتز في 23 تموز/يوليو2016م حين قررت المملكة المتحدة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وقد خرجت رسميًّا من الاتحاد الأوروبي بتاريخ 31 كانون الثاني/يناير2020م؛ لتكون أول دولة فيه تقوم بذلك.

ألقت جائحة كورونا بظلالها كذلك على أقطاب العالم الكبرى، وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني الأمرَّين هذه الأيام من جهة من حيث عدد المصابين بكورونا والذي تجاوز المليون ومئة ألف إصابة، وما يزيد عن 65 ألف وفاة

ومع قدوم جائحة كورونا وتفشي الفيروس الهائل وغير المتصوَّر في أوروبا لدرجة أن مثلت حالات الإصابة بالفيروس في أوروبا أكثر من 44 بالمائة من نسبة حالات الإصابة في العالم كله؛ فيما تجاوزت نسبة حالات الوفيات 57 بالمائة من النسبة العالمية، وهذه أرقام ولا شك كبيرة، وأدت إلى حدوث خلافات وشقاقات كبيرة بين قادة أعضاء الاتحاد الأوروبي سواء في كيفية إدارة الأزمة أو في طرق التعاون بينها في محاربته ودعم بعضها بعضا، والأمثلة على ذلك كثيرة؛ بداية من رفض عدد من دول الاتحاد القوية الاقتراض الجماعي وفق ما سمي بـ"سندات كورونا"، ثم قيام بعض دول الاتحاد باعتماد حالة "الحرب" في مواجهة تفشي الفيروس وما يستتبع ذلك من أن"كل شيء مباح"، فصادرت جمهورية التشيك شحنة من المساعدات الطبية والأقنعة الواقية كانت قادمة من الصين في طريقها إلى إيطاليا، كما قررت ألمانيا حظر تصدير مستلزمات الوقاية الطبية للخارج حتى وإن كان هذا الخارج شركاءها في الاتحاد، وهدد رئيس الوزراء الإيطالي، جوسيبي كونتي، خلال القمة التي نظمت عبر الفيديو بعدم التوقيع على الإعلان المشترك في حال لم يعتمد الاتحاد تدابير قوية "مرفقة بأدوات مالية مبتكرة وملائمة بالفعل لحرب يتوجب علينا خوضها سويًّا".

وبلغ الشقاق مداه باستباق رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، الأمور ومهاجمته الاتحاد الأوروبي تحسباً لانتقاد محتمل لفرض قانون الطوارئ في بلده مؤخرا؛ حين صرح يوم 31 آذار/مارس 2020م: "أوضحت للمعترضين من الاتحاد الأوروبي بأنه ليس هذا الوقت ليظهروا بجميع القضايا القانونية الممكنة وكأنهم يعرفون كل شيء"، مؤكداً أنه بعد الأزمة يوجد وقت كاف للنقاش، و"إذا لم يكونوا قادرين على تقديم المساعدة لأنهم لا يقدرون على ذلك؛ فعلى الأقل عليهم عدم منع المجريين من الدفاع"، وهذا كله في الوقت الذي تداعت دول خارج الاتحاد كتركيا روسيا وكوبا لمد يد العون لدول الاتحاد. عدم الاتفاق والتعاون بين دول الاتحاد حدا بصيحفة "كورييري ديلا سيرا" الإيطالية للقول: "في حال افتقد الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق، فإن هذا يعني أن المشروع الأوروبي نفسه قد انتهى". فهل انتهى فعلاً المشروع الأوروبي ودقت جائحة فيروس كورونا المستجد المسمار في نعشه؟

منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك OPEC":

"أوبك"منظمة عالمية تضم 13 دولة تعتمد على صادراتها النفطية اعتماداً كبيراً لتحقيق مدخولها، وقد تأسست في بغداد بالعراق عام 1960م، وفي تشرين الثاني/نوفمبر2016م تم عقد اتفاق أطلق عليه"أوبك بلس OPEC PLUS"، وهو اتفاق غير رسمي يضم 23 دولة مصدرة للنفط منها 13 دولة عضواً في"أوبك"، وكان هدف هذا الاتفاق خفض إنتاج البترول لتحسين أسعار النفط في الأسواق.

وعلى مدار سنيِّها الـ60 لم تشهد"أوبك"ما تشهده من تحديات هذه الأيام سببتها جائحة فيروس كورونا المستجد، وقد تمثلت هذه التحديات بشكل واضح في ملمحين كبيرين:
الأول: الحرب السعودية الروسية: تسبب فيروس كورونا بأكبر انخفاض في الطلب على النفط على الإطلاق، الأمر الذي استدعى الحديث عن ضرورة خفض الإنتاج، وقد اتفقت "أوبك"على خفض إنتاج النفط 1.5 مليون برميل يوميًّا إضافية في الربع الثاني من 2020م لدعم الأسعار المتضررة بفعل تفشي فيروس كورونا؛ لكنها جعلت تحركها مشروطاً بانضمام روسيا ودول أخرى، وقالت روسيا وقازاخستان، وكلتاهما من أعضاء مجموعة "أوبك بلس"، إنهما لم توافقا بعد على تعميق الخفض؛مما يزيد خطر انهيار تعاون رفع أسعار الخام منذ 2016م.

وقد حاولت السعودية "أكبر عضو في أوبك" إقناع روسيا بهذا التخفيض وفشلت في ذلك،واحتدم الخلاف بين الطرفين، وازداد تهاوي سعر برميل النفط إلى مستويات غير مسبوقة ما أدى إلى أن تدخل الطرف الأمريكي بالتوسط ليعلن تحالف "أوبك بلس" الأحد 19 نيسان/أبريل الماضي التوصل إلى اتفاق لإجراء أكبر خفض لإنتاج النفط في التاريخ خلال الشهرين القادمين والذي بلغ نحو 10 بالمائة من المعروض العالمي وذلك من أجل وقف انهيار الأسعار، ويعد هذا أكبر خفض لإنتاج النفط العالمي في التاريخ؛ إذ يفوق أربعة أمثال التخفيضات التي اتفق عليها المنتجون في خضم الأزمة المالية العالمية عام 2008م.

الثاني: انهيار أسعار العقود الآجلة للنفط الخام الأمريكي: أدى تأثير جائحة كورونا إلى انهيار أسعار العقود الآجلة للنفط الخام الأمريكي، يوم 20 نيسان/أبريل الماضي ليصل سعر البرميل إلى سالب 37.63 دولار ليهبط سعر البرميل إلى ما دون الصفر لأول مرة منذ بدء بيع العقود الآجلة عام 1983م. وأظهر الانهيار التاريخي فائض حجم الضخ مقارنة بالطلب الذي وصلت له أسعار النفط في ظل تفشي فيروس كورونا، وسط مخاوف من أن يجد العالم نفسه غير قادر على إيجاد أماكن لتخزين براميل النفط، في الوقت الذي يدفع فيه المنتجون المال للتخلص من البراميل التي لديهم.

undefined

وبالرغم من أن قيمة العقود الآجلة المتعلقة بشهر آيار/مايو أصبحت سلبية إلا أن قيمة تلك المتعلقة بحزيران/يونيو كان المتوقع لها أن تكون أكثر من 20 دولارا للبرميل، غير أنها وعلى الرغم من ارتفاعها تراوحت بين 10.26 و11.57 دولاراً للبرميل ولم تقترب حتى من المستوى المأمول، وهذا الانخفاض ما يزال مثيراً للقلق-بحسب الخبراء-.  ولم تسلم السوق العالمية بالطبع من تأثير الانهيار الأمريكي حيث انخفضت أسعار النفط الخام عالميًّا كذلك،إضافة إلى خشية السوق من نفاد مواقع تخزين البراميل التي لا يريدها أحد. جميع هذه المعطيات، وبالنظر إلى الوضع الراهن سندرك تمزق منظمة "أوبك" وعدم قدرتها على الاتفاق بشأن قضايا مصيرية، يضاف إلى هذا تعالي أصوات بعض أعضائها بأنها بدأت تبحث عن طرق أخرى بعيدة عن المنظمة لتأمين نفسها، ومنها إيجاد بدائل أخرى عن النفط كالغاز والفحم، وهذا كله يدق ناقوس الخطر حول مصير "أوبك".

الدول العظمى:

ألقت جائحة كورونا بظلالها كذلك على أقطاب العالم الكبرى، وأبرزها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني الأمرَّين هذه الأيام من جهة من حيث عدد المصابين بكورونا والذي تجاوز المليون ومئة ألف إصابة، وما يزيد عن 65 ألف وفاة -حتى كتابة هذه السطور-، ومن جهة أخرى انهيار أسعار النفط عالميًّا والنفط الخام في الولايات المتحدة بشكل خاص. كما أن أوروبا -كما أشرت سابقاً- غدت في حال لا تُحسد عليه جراء كورونا وانشقاقات اتحادها. يضاف إلى ما سبق تأثيرات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي؛ حيث خسرت الأسواق العالمية 20 بالمائة من قيمتها، وانخفضت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر 5 بالمائة وهو أدنى مستوى منذ الأزمة المالية عام 2008م، وقُدِّرت خسائر قطاعات السياحة والسفر بأكثر من 120 مليار دولار، إضافة إلى ما يراه المختصون من أن نمو الناتج الإجمالي العالمي سينخفض إلى الصفر المئوي، وهذا أسوأ سيناريو تمر به البشرية منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي.

هذه كلها سيكون لها تداعياتها الكبرى على الدول الأقطاب في العالم كالولايات المتحدة وبعض دول أوروبا؛ خصوصاً مع تعالي أصوات بضرورة فك الارتباط مع الدولار الأمريكي الذي هيمن على سوق العملات منذ عام 1944م؛ فهل نشهد أفول أقطاب وظهور أقطاب جديدة، وهل تنتهي سيطرة ٧٦ عاما للدولار على عملات العالم؟ فهل غيَّرت جائحة فيروس كورونا المستجد العالم؟ وهل سيأخذ الفيروس معه حين رحيله دولاً عظمى وكيانات تاريخية؟ هذا ما ستكشفه الأيام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.