شعار قسم مدونات

التعليم عن بعد في زمن كورونا.. التجربة الماليزية

blogs تعليم

التَّعليم سرُّ النَّهضة الماليزية.. ما فتئ تون دكتور مهادير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق وصَانِع نَهضَتِها بِلا مُنازِع يُعلِن للجَمِيع أن نَهضَة ماليزيا قَامَت على التَّعليم بَل كَان قوامها وسَبَبُ قِيامِها، ولَعلَّ آخرُ تَصريحاتهِ ما قَدَّمه مع الاستَاذ أَحمد منصور في حَلقات برنامج شَاهِدٌ على العَصر والذي يَتَزَامَنُ عَرضَهُ مع أزمَة كورونا وتأثيرها على الحَياة عامَّة التَّعليم جزء منها، لَقَد ذَكر الدُّكتور مهادير أنه منذ أن بدأ مُعتَرك السِّيَاسَة كان يرى أن لا نَهضَة من غير التَّعليم وإن أَصبح وَزير للتَّعليم حتَّى بدأ ثَورةً في التَّعليم رَضيَ عَنها القليل ورَفَضها الكَثير (رَغبَةً في عَدم الخُروج عَن المألوف) حَيثُ أنه خَالفَ كلَّ تَوقُّعات المُتَوقِّعين (وأنا شَخصيّاً أرى أن سِرَّ نَجاحِ الدكتور مهادير في أنه دائماً يَفعَلُ ما لا يُتَوقَّع) فقد اتَّجهَ إلى الشَّرق (اليابان وكوريا وما حَولها) للاستِفادَة مِن تَجربة هذا الشَّرق ونَهضَتِهِ لا سيَّما الصِّنَاعات الثَّقيلة والتَّعليم (صِناعة الجِيل مِن أثقَلِ الصِّنَاعات)، في الوَقت الذي كَان الجَمِيع يحُجُّون نَحو الغرب لِسَان حَالِه "عِندما أردنا الصَّلاة اتَّجهنا نَحو القِبلَة وعندَما أردنا النَّهضَّة اتجهنا نَحو الشَّرق" وبدأ يُدَرِّسُ ما يُريد تَحقيقه مِن هَندَساتٍ ومَجالاتِ رَفدِ الصَّناعة التي كان يَصبو لها وبِقِيَ الحال كَذلك يَنمو ويتَطوَّر فَلَمْ تُعرقِل جائِحَةُ كورونا عَجَلَتهُ، الأصل ثَابت مَدروس والفرع في السَّماء يواصل الارتِقاء.

 

البنيَة التَّحية الافتراضية المُعدَّة مُسبقاً.. لعلَّ ما ميَّزَ تَجرِبَة التَّعليم الماليزيَّة إبَّان جاَئِحَةِ كورونا ليس هو اتخَاذُ القرار مُباشَرَةً بالتَّحوِّلِ إلى التَّعليم الإلكتروني أو التَّعلم عَن بُعد، فمعظَمُ دوَلِ العالم خَطت نَفسَ الخُطوَة، بل إنَّ ما ميَّز هذه التَّجربة هو وُجودِ البنيَةِ التَّحتيَّة للتَّعلم عَن بُعد وكأنها وُضِعَت لِظَرفٍ كَهذا، وإن كانت مُهمَلةً في ما مضِى مِن الأيَّام، فَقد بدأت مَرحلة بِناء التَّعليم الإلكتروني في ماليزيا من عام ألف وتسعمئة وثلاثة وتِسعِين مِن خلاِلِ مَشروع الحَاسوب التَّعليمي، فقد تَمَّ تَوزيع حواسيب على ستين مَدرسة اعداديَّة على مستوى ماليزيا كَامِلةً وذلك  كِدراسَة وَاقِع و التأكُّد من جدوى هذا النَّوع مِن التَّعليم في المُجتَمعِ المَاليزي، لكنه لم يكن ذو جَدوى حَالهُ حَالِ كَثيرٍ مِنَ التَّجارب المَثيلة في كَثيرٍ من دُول العالم، فأعادت ماليزيا الكرَّة في عام ألف وتسعمئة وستة وتسعين فكانت النتائج أفضل وما زالت البنيَة التَّحتيَّة الإلكترونيَّة للتَّعليم في ماليزيا تتطَّور وإن كان بشَكلٍ بطيء ولكن عِند الحَاجة لهذه المُعدَّات في فترة جائحة كورونا كَانت أرضيَّةً التَّعليميَّة قد أخذَت زُخرُفَها وازَّيَنَت بما أُعِدَّ ذَات زَمَانٍ مَضى مِن بِنيَةٍ إلكترونيَّةٍ يمكن الاستِعانَةُ بِها لإبقاء رحى التَّعليم دائرةً فلن تُبتلى أُمَّة مِنَ الأُمَم بأعظَمِ مِن تَوقُّف رحى التَّعلم والتَّعليم.

لقَد ذَكر الدكتور مهادير محمد أنه من الخطوات التي نَجَح فيها إبَّان فترة حُكُومَتهِ الأولى هو خصخصة وزارة الاتصالات

الانتباه لِما غُفِلَ عَنه.. إنَّ الوَباءَ هو الوَباء ولإنْ كَان اختِباراً فلن يَكونَ نِعمة لَعلَّه يَحتوي على بَعضِها، ومنها الانتِباه لِما غُفِلَ عَنه في أكثر مِن مَجال، وعَن التَّعليم في فَترَة كورونا أتكَّلَّم، بَعدَ التَّحوُّلِ إلى التَّعلُّم عَن بُعد ظَهرَ أنَّ عَدداً لا يُستَهانُ بِه منَ المُعلِّمِين يَحتاجُ إلى التأهيل والتَدريب على التَّعليم عَن بُعد والتَّخطيط لَهُ وقياس تَعلُّمِ الطَلَبَةِ وتَقويمهِ تَحت مِظلَّةِ التَّعلم عَن بُعد مما أدى إلى بَعضِ التَّلكُّؤ وبَعض الضَّعف في بِدايَةِ الأمر مِمَّا فتَّح عُيون القائمين على التَّعليم على هذا الضَّعف فتمَّ اتخاذ ما يَلزَم مِنَ القرارات.

 

التَّصالح مع الوَاقِع والمَفروض.. بَعد أن ظَهر شيءٌ مِن الضَّعف في التَّعليم عَن بُعد كَان أَجمَل ما في هذا الضَّعف أنَّه فتَّح أعينَ بَعضِ القائمين على التَّعليم لاستِدراك هذا الخَلل في تأهيل المُعلِّمين حَيثُ تَمَّ إعداد دَورات قصِيرَة ومُكثَّفة في المحاور التي تعاني من النَّقص فأنا من اللذين خَضَعوا لدورَةِ التقويم التَّربوي من خلال التَّعليم الإلكتروني، اضافةً إلى تَدريب المُعلِّمين على التَّطبيقات التَّعليميَّة الحديثة، فبسبب هذه الجائحة وبدعمٍ مِن تَصَالحٍ المعلّمين مع الواقع والإقرار بما وُجِدَ عِندَهم من ضَعف، أُقيم برنامج تَدريبي للمُعلِّمين ارتقى بهم وبمهاراتهم التَّعليميَّة والمُخرجات التَّعليمية لدى الطَلبة.

 

المُعلِّم حِين يُقرِّر أن يَكون فَارِس المَوقف.. بالرَّغم ِمن وُجود المُعدَّات التَّعليميَّة التِّكنولوجيَّة إلا أن الفعاليَّة والنَّجاح الظَّاهر في التَّجربة الماليزيَّة يَعود لِفرسان المَعرِفَة وسَدَنَةِ الجيل الذين أبَوْ إلا الحِفاظ على هذا الجيل، لَقد قرر المُعلِّمون أن يَنجَحوا في اختِبار كُورونا عل حِساب أوقات راحَتِهم وأوقاتِ أُسرِهم فَلم يَعُد للدَّرس وَقتٌ بَل أَوقات ولم يَعد للتَّدريس فَصلٌ بَل فَضاء لَقَد أراد المُعلِّمون تَعليمَ الجَميع، الطلَبَةُ يَتعلَّمون دُروسَهم وغَيرهم يتَعلَّم درسَ الوَطَن والبَذل لِضَمان صِحَّةِ المُجتَمعِ جِسماً وعقلاً، ألم نَدرس ذَات زَمان أن العَقل السَّليم في الجسم السَّليم، لَقد رَبِح المُعلِّمون المَعرَكة يَوم أَرادوا أن يَكونوا هُم  الوَطن فَقد وَصل الأمر ببعض المُعلِّمين (في قصص اطَّلعت عَليها شَخصيّاً) أن يشتروا وِحدات الإنترنت للطَّلبَة غير القادرين على الشراء لظَرفٍ مادِّي أم لِظروف الحَجْر وذلك من خلال الشراء الإلكتروني.

 

المسؤولية المجتمعية.. لَقد أَظهَر المُجتَمُع المَاليزي مَسؤوليَّة رائعَةً بل لا أُبالغ إن قُلت منقَطِعَة النَّظِير، وعَن شَرِكات القِطاع الخاص أتكلَّم وقطِاع الاتصالات على وَجه الخصوص، لقَد ذَكر الدكتور مهادير محمد أنه من الخطوات التي نَجَح فيها إبَّان فترة حُكُومَتهِ الأولى هو خصخصة وزارة الاتصالات، غير أن هذا الكَيان الجَديد (شركات الاتصالات) خَرجَت مِنَ الحُكومة لكِنَّها لم تَنسلِخ عن الوَطَن فَقد أظهرت مسؤوليَّةً مجتمعيَّةً بَاهِرَةً حِين قامت بتوفير حُزَم الانترنت للطَّلبَة سواء في المدارس أو الجامعات حَيثُ قَامَت شَركات الاتصالات الخلويَّة بتقديم الحُزَم اليومية للطَّلبة كي يبقوا على اتصال مع مدارسهم، أرى أن المسؤوليَّة المجتمعيَّة لهذه الشَّركات لم تَكن فقط في تَوفير هذه الخِدمَة مجَّاناً فقط، بل أكثر من ذلك إن هذه الشَّركات لم تستَغِل حَاجَةَ النَّاس، ولم تستثمر في الجائحة كتجار الحروب الذي لا يفكرون إلا كم سيدخُل جيوبهم، كما أنه ليس بعيداً عن ذلك اعفاء طَلبَة الدِّراسات العُليا من فواتير الكَهرباء والماء والانترنت المنزلي الذي تقدمه شركة الاتصالات الماليزية، لقد أظهرت هذه الجائحة أنْ لا تفوُّق عليها إلا من خلال التَّعامل بمسؤوليَّة من الجَميع لاستيعاب جَمِيع القِطاعات والتَّعليم في القلب منها.

 

حلَّقت ماليزيا بِكُّلِّ الأجنحة.. نَعَم لَقَد حَلَّقت ماليزيا بِكلِّ أجنِحتها وقَبِلَت التَّحدي مع هذه الجَائِحة، فقد استخدم المعلمون كل ما أُتيح لَهم لإنجاح تَجربة التَّعلم عَن بُعد التي أُرغِموا عَليها، كَما أَنَّ دور الأهالي كَان مُشرِّفاً ومَدعاة للفَخر مِن مُتَابَعَة أَبنائهم والتَّواصل مع المُعلِّمين وبل وعَرض المُسَاعدة والسؤال كيف يمكن أن نُسَاعِدَكم، لَقد قَدَّموا للمُعلِّمين خِدمَة رَفيق الدَّرب والحامِل الذي يَقصِّرُ من بُعد الطَّريق ويقلل من ضَغط العَمل، إضافةً إلا الدَّعم من المجتمع الذي أراد أن يرسل للمعلم رسالة إن مهنة المعلِّم شَرفٌ لا نَدَّعيه لكِنَّا لا نَعدَم نَصِيحَة المتنبي "فليُسعِد النُّطق إن لم تُسعِد الحالُ"، نَحنُ لا نَستَطِيعُ أن نُدَرِّس لكنَّنا نُحاوِلُ أن نَدعم جُهدَ المُعلِّم ما استَطعنا إلى ذلك سبيلاً.

 

تَسريباتٌ سَعِيدَة.. لَقد بدأت تتسرَّب اشاعات أقرب إلى الحقيقة أن المَرحلة الثَّانوية (ما قبل الجَامِعَة) قد تباشر دِراستِها في الفصول والمدارس وَاجهاً لوجه بَعد عِيد الفِطر السَّعِيد مع شروطٍ صِحيَّةٍ مُشدَّدة تَرتَقي إلى أن تَكون وَجهاً جَديداً للفصول المَدرسيَّة ثُمَّ تَلتِحق بِهم المراحل الأخرى تِباعاً، إذن سَتَعود الطُّيورُ إلى أعشاشِها وسَيَعود المُعلِّمون إلى قواعِدِهم سَالمين، سَيعودون مَرفوعي الرأس بما أنجزوا، متسلِّحين بما اكتسبوا من خبرات لَقد صَنَعَ المجتَمَعُ الماليزي وفي مُقدِّمتِهم المُعلِّمُ من جائحة كورونا سُلَّماً إلى المَجد وجِسراً لِتَجاوزِ مِحنةٍ أخذوا مِنها المِنحَة ثم نَفضوا عَن جِباهِهم غُبار المعركة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.