شعار قسم مدونات

كورونا ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية العالمية

blogs كورونا

لم يعد انتشار فيروس كورونا أزمة صحية بحتة تعنى بمنطقة جغرافية واحدة بل تعدت إلى كونها جائحة عالمية أصابت كل جوانب الحياة وخاصة الاقتصادية والسياسية، فاتحة الباب أمام المختصين والباحثين لدراسة آثار الجائحة وكيف ستؤثر في شكل النظام الدولي وعلى الفاعل الأساسي فيه "الدولة". في هذا المقال ووفقا لنظرية المفكر بول كيندي التي قدمها في كتابه (Rise and Fall the Great Power) نستقرأ تأثيرات جائحة كورونا على مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في المشهد الدولي.

  

وبمراجعة النظرية التي تناولت أسباب ظهور وأفول القوى العظمى من 1500م إلى عصرنا الحالي، خلص الكاتب لعدة عوامل ثابتة تجمتع لقوة من القوى في كل عصر وتدفع بها نحو قيادة النظام العالمي والهمينة الدولية إلى أن تتلاشى هذه العوامل أو تضعف أو يغلب أحدها على الآخر وهو أمر حتمي كما يرى المفكر لتعود إلى حجمها الطبيعي الأول تاركة مكانها لقوة أخرى تتوافر لديها نفس العوامل. ومن بين هذه العوامل العاملين الإقتصادي والعسكري حيث ركزت الدراسة على التوازن الدقيق بين النمو الاقتصادي والإنفاق العسكري الذي يلزم النفوذ الاستراتيجي الخارجي التي تبحث عنه القوى العظمى لتكون القطب الأوحد أو واحدة من الأقطاب التي تقود النظام العالمي. ويرى المفكر أن الاختلال في هذا التوازن يشكل العامل الحاسم في تراجع القوى العظمى عن مكانتها في المشهد الدولي كما حدث مع الدولة العثمانية وممكلة أسباينا ومملكة بريطانيا العظمى. والجدير بالذكر أن النظرية قد تنبأت بسقوط الاتحاد السوفيتي وذلك لاختلال التوازن بين قدرته الاقتصادية التي شهدت تراجعا كبيرا لأسباب عديدة "لا يتسع المقال لسردها" وبين إنفاقه العسكري ونفوذه الاستراتيجي وحربه الباردة المستمرة مع الولايات المتحدة مما أدى إلى تغير في شكل النظام العالمي من ثنائي القطب إلى أحادي القطب تهمين عليه الولايات المتحدة إلى يومنا هذا.

 

الولايات المتحدة وميزان الاقتصاد والإنفاق العسكري

قد بدت آثار جائحة كورونا واضحة على الاقتصاد الأمريكي منها مخاطر الوصول إلى حالة الركود الاقتصادي من جراء الإغلاق الصحي الذي مازال محل خلاف بين إدارة ترمب والحكومات المحلية والذي تسبب بتعطل حركة الإنتاج والنمو الاقتصادي وزيادة نسبة البطالة بعد فقدان ملايين الوظائف في مختلف القطاعات مسجلة خسائر لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل. وقد أقدمت الإدارة الأمريكية على الاقتراض الأكبر في تاريخ الولايات المتحدة بقيمة ما يقارب 3 ترليونات دولار لمواجهة جائحة كورونا وما نتج عنها من أزمات اقتصادية واجتماعية. ويرى خبراء اقتصاديون أن التكلفة المتوقعة للمال المهدر قد تصل إلى 1.7 تريليون دولار عام 2020 ، وأن الازمة الاقتصادية الحالية سترفع من نسبة عجز الميزانية الأمريكية إلى مستويات لا يمكن تحمّلها وأنه بحلول عام 2025 يمكن أن يساوي سداد الديون وحده ميزانية وزارة الدفاع "البنتاغون" بالكامل التي أصاب فيروس كورونا قياداتها وأفرادها وأجبر حاملة الطائرات "روزفلت" على الخروج من الخدمة. 

  undefined

 

وتأتي هذه المؤشرات صادمة للإدارة الأمريكيية ومخالفة لسياسات الرئيس ترمب الذي أقر في وقت سابق الميزانية العامه لبلاده المقدرة بـ 4,8 ترليون دولار مع خفض في الإنفاق الداخلي والمساعدات الخارجية مقابل ارتفاع في الإنفاق العكسري والأمني. حيث خفض ميزانية وزارة الخارجية والرعاية الصحية والخدمات البشرية وغيرها، في حين تفاخر برفع ميزانية وزارة الدفاع التي بلغت بـ738 مليار دولار مقسمة بين الموازنة الأساسية والعمليات الخارجية المحتملة وميزانية تشكيل القوات الفضائية الجديدة في الجيش الامريكي ونفقات دفاعية أخرى. إضافة إلى زيادة الإنفاق على التسلح النووي معللا ذلك أنه لا يملك خيارات أخرى في سباق التسلح النووي مع روسيا والصين. في إشارة واضحة للاستمرار في تراكم القوة وخاصة النووية ومواكبة للانتشار العسكري الخارجي حول العالم المتمثل بأكثر من 750 قاعدة عسكرية و7 أسطايل بحرية تعمل تحت 10 قيادات قتالية موحدة لحفظ أمن الولايات المتحدة وضمان همينتها العالمية ومصالحها الإستراتيجية مع حلفائها حول العالم. وبمقارنة مؤشرات الأزمة الاقتصادية وبين ميزانية البناتغون الحالية فإن الإنفاق العسكري سيشكل عبأ كبيرا على كاهل الاقتصاد الأمريكي.

 

الولايات المتحدة واختبار الترهل الإمبراطوري

يرى المفكر بول كيندي أن الولايات المتحدة كقوة عظمى تمثل حالة فريدة في قوتها الإقتصادية والعسكرية والتكنولوجيه وحجم نفوذها وتأثيرها في المشهد الدولي الذي لم يتحقق لقوة غيرها، لكن شأنها شأن أي قوة عظمى تشهد انخفاضا في المستويات الاقتصادية لأسباب معينه، وبالتالي تفقد القدرة على مواكبة النفقات العسكرية التي تؤدي إلى التراجع في النفوذ الاستراتيجي العالمي. وعليه فإنها أمام إختبار حقيقي يتحدى أي قوة عظمى تريد أن تبقى مهينمة ألا وهو تأخير الوصول الى حالة "الترهل الامبراطوري" بمعنى أن على الولايات المتحدة أن تواجه حقيقة مستمرة مفادها أن إجمالي المصالح الأمريكية والإلتزامات التي ورثتها من هيمنتها على قيادة النظام العالمي طوال فترة ما قبل جائحة كورونا هي اليوم أكبر من قدرة الدولة عن الدفاع عنها والإنفاق عليها جميعا في وقت واحد. وأن على الولايات المتحدة تجاوز هذه الأزمة بقدرتها الفريدة التي تتميز بها عن غيرها من القوى السابقه وذلك بسبب "كما يرى كيندي" مجتمعاتها الحرة، والقيادات القادرة على التنبؤ بالأزمات وتستعد لها إضافة إلى استخدام القدرة التكنولوجية في مواجهة كافة أشكال الأزمات.

 

لكن جائحة كورونا إلى الآن أظهرت تفوقا على القدرارت الأمريكية الفريدة وتسببت بمزيد من الانقسام الداخلي حول سياسات إدارة الرئيس ترمب، التي قد تضطرها الجائحة لخيارات تؤدي إلى اختلال الميزان الدقيق بين العاملين الاقتصادي والعسكري، كإعادة توزيع الميزانيات في الموازنة العامة لصالح الرعاية الصحية والخدمات الداخلية لمواجهة جائحة كورنا وذلك على حساب الإنفاق العسكري مما سينعكس سلبا على النفوذ الأمريكي الاستراتيجي الخارجي مسببا فراغا جيوسياسيا في المجالات الحيوية للولايات المتحدة الأمرالذي سيؤثر في شكل ميزان القوة العالمي (Balance of Power) في المديين المتوسط والبعيد متيحا الفرصة لقوى عالمية وإقليمية أخرى لملئ الفراغ الجيوسياسي دوليا وإقليميا وتشكيل ميزان قوة جديد وبالتالي تراجع مكانة الولايات المتحدة. أو أنها تستمر في نفس معدلات الإنفاق العسكري على النفوذ الاستراتيجي والانتشار العسكري الأمر الذي سيرهق كاهل الإقتصاد الأمريكي المتأثر بالفعل من حربه مع كورونا وبالتالي لن تستطيع الولايات المتحدة الحفاظ على الميزان الدقيق بين العاملين (النموالاقتصادي والقدرة العسكرية) المهمين في بقاء أي قوة عظمى مهمنية على المشهد الدولي.

 

ختاما فإن جائحة كورونا شكلت ومازالت تحديا كبيرا للولايات المتحدة وإدارة الرئيس ترمب التي لم تنجح إلى الآن في تجاوز الأزمة محليا ولم تتصدر لها عالميا كما فعلت الإدارات السابقه مع غيرها من الكوارث العالمية. وأن الجائحة وما سببته من أزمات إن لم تستدرك سريعا قد تخلخل الميزان الدقيق بين النمو الاقتصادي والإنفاق العسكري الأمر الذي سيؤثر في مكانة الولايات المتحدة الأمريكية في المشهد الدولي في المديين المتوسط والبعيد وأن عصر "الاضمحلال الأمريكي" كما يطلق عليه المفكر كيندي والتراجع إلى حجمها الطبيعي ربما يكون قد بدأ وأن قوى أخرى ستشاركها في قيادة المشهد الدولي في عصر ما بعد كورنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.