شعار قسم مدونات

"كلها يومين وبنرجع".. 72 سنة على النكبة

blogs النكبة

"ما توخذي كل الأغراض، خذي الشغلات المهمة بس.. وهاتي مفتاح الدار معك كلها يومين وبنرجع".. ربما جميعنا كفلسطينيين سمع هذه العبارات وحفظها من حكايات أجدادنا وجداتنا، أثناء حديثهم لنا عن ذكريات النكبة الأليمة التي عاصروها عام 1948، وقت هروبهم مجبورين بعد المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق العائلات الفلسطينية في مدنهم وقراهم حفاظا على أرواح من تبقى منهم على قيد الحياة في ذلك الوقت. المجازر التي لم تقتصر على البشر فقط، بل طالت كل شيء فلسطيني فلم تترك العصابات الصهيونية البشر ولا الحجر ولا الشجر وحتى الحيوانات لم تسلم من جرائمهم البشعة التي يشهد عليها تاريخ النكبة وتشريد أجدادنا إلى بقاع الأرض كلها!

وأنا كلاجئ فلسطيني من قرية "بَرْبَرَة" الفلسطينية المُهجرة المجاورة لمدينة المجدل المحتلة تهجّر أجدادي عام 1948 من قريتنا الجميلة المشهورة بكروم العنب، وكلاجئ فلسطيني أيضا ما زال مؤمنا بتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي وما زال يحمل حلم العودة إلى قريته التي سمع عنها كثيرا وأحبها دون أن يراها، ويتلهف شوقا لمشاهدة بيت أجداده الذي ما زالت "ستّي" تحتفظ بمفتاحه حتى يومنا هذا، كنت أجلس دائما بجوار جدتي أسمع حكاياتها عن البلاد وعن الهجرة والنكبة، سأروي لكم جزءا من الحكاية الكاملة التي سمعتها من ستّي عن البلاد.

لم تكن تتصور أو تتخيل ستّي أن اليومين سيصبحان 72 سنة من الشتات والغربة والفرقة والنكبة والذكريات الأليمة، لم يكن يخطر على بال أحد ان اليومين صارا 72 عاما، وما زلنا كفلسطينيين نعيش تحت ظلم الاحتلال

أكثر ما أتذكره من حكايات "ستي" عندما كانت تحدثنا عن كروم العنب الخضراء التي كانت تغطي مساحات شاسعة من قريتنا "بربرة"، وتقول لي دائما أن عنب بربرة كان من أشهر وأطيب أنواع العنب في فلسطين، لدرجة أنه كان هناك مقولة مشهورة عن عنب القرية ويرددها البائعون كثيرا وهي "بربراوي يا عنب" لشدة شهرته وجودته في تلك الفترة. ومن حكاوي ستّي أيضا، قالت لي "احنا أصلنا فلاحين، يعني حياتنا وروحنا في الزراعة والفلاحة وحب الأرض، وحتى لما تهجّرنا وجينا على مدينة غزة مجبورين بسبب أحداث النكبة ما تركنا الزراعة وكانت بيوتنا كلها شجر مثمر، وكان في كل بيت بربراوي موجود دالية أو أكثر من العنب لتعلقنا الكبير به، ولأنه جزء لا يتجزأ من تراث وروح كل بربراوي".

وعندما كنت أسأل ستي عن شكل قريتنا، وصفتها لي، بأن بربرة أرضها ساحلية ومنبسطة، كانت القرية مستطيلة الشكل تحيط بها بساتين عدة وبركتان من الماء، وكانت معظم حدود القرية محاطة بنبات الصبار لتلقى الرمال الزاحفة من شاطئ البحر المتوسط، أما بالنسبة لمنازل بربرة فكانت مبنية بالطوب مفصولة بعضها عن بعض بأزقة رملية. كنت أحب كثيرا الجلوس بجوار ستي وأسمع لحكاويها عن أيام زمان، وكان هناك سؤال دائما يتردد في ذهني حتى سألته لها ذات مرة، وهو "لم تفكروا بالعودة إلى بربرة أو زيارتها يا ستي بعد النكبة؟!"، كانت تجيبني دائما ودموع الحزن والشوق تملأ عينيها "حاولنا كتير يا ستي بس كان الاحتلال الإسرائيلي يمنعنا ندخلها بعد ما تهجرنا منها، كنا نشوفها من بعيد ونتحسر عليها وعلى كروم العنب اللي سرقوها قدام عينينا وما قدرنا نعمل اشي".

وعن لحظة الهجرة تحديدا ووقت نزوح أهالي القرية منها، قالت لي: "العصابات الصهيونية كانت ما ترحم وارتكبت مجازر في معظم قرى فلسطين، حتى بربرة ما سلمت منهم وهجموا عليها وأطلقوا النار على المزارعين في أراضيها حتى يبثوا الرعب بين سكانها، ولما سمعنا عن المجازر وشفناها في القرى المجاورة النا خفنا على أرواحنا، ولما طلعنا من القرية كنا مفكرين إنه يومين وراح نرجع يا ستي، أنا أخذت ذهباتي وشوية أواعي ومفتاح الدار على أساس مش مطولين، لكن ما كنا عارفين إنه راح نطلع من البيت بلا رجعة!".

لم تكن تتصور أو تتخيل ستّي أن اليومين سيصبحان 72 سنة من الشتات والغربة والفرقة والنكبة والذكريات الأليمة، لم يكن يخطر على بال أحد ان اليومين صارا 72 عاما، وما زلنا كفلسطينيين نعيش تحت ظلم الاحتلال ونحلم بالعودة يوما ما، مهما كان الثمن ومهما كان المقابل من أرواح.
ومن شدة تعلق ستي ببيتها وأرضها لا تزال تحتفظ حتى يومنا هذا بمفتاح الدار وطابو الأرض في قريتنا المهجرة على أمل العودة يوما ما، إن لم تكن هي بنفسها فأبناؤها وإن لم يكن الأبناء فالأحفاد، وهذا الحب لفلسطين ولقريتنا الصغيرة الذي ورثناه عن أجدادنا هو الذي يبقي الأمل حي فينا بحق العودة وأنها حتمية بإذن الله وإن انتظرنا إلى قيام الساعة.

هذا جزء بسيط جدا من حكايات ستّي عن قريتنا الجميلة، جعلتنا نحب قريتنا دون أن نراها وجعلتنا نتعلق بها ونتخيلها كأننا رأيناها بأم أعيننا، فلا أخفيكم أنني الآن أرسم في مخيلتي شكل قريتي كما وصفته لي ستّي وأحبها كثيرا وأفتخر بها وهذا كله بالسمع عنها فكيف لو شاهدتها وعشت بها طفولتي وسنوات عمري مثل أجدادي الذين يتحسرون على تلك الأيام ويبكونها لأنها بالنسبة لهم "أجمل أيام العمر" قبل النكبة. أعتقد جازما أن هذه العقيدة مغروسة داخل كل فلسطيني ورّثه أجداده حب الأرض والبلاد، وتحدثوا له عن حكايات قرانا ومدننا الفلسطينية الجميلة قبل قدوم هذا الاحتلال الإسرائيلي الغاشم على أراضينا الفلسطينية وسرقة الأرض وتزوير التاريخ. أتعرفون ماذا كانت محصلة المجازر الصهيونية بحق الفلسطينيين منذ قدومهم إلى أرضنا حتى عام النكبة 1948م؟!

دمرت العصابات الصهيونية 532 قرية فلسطينية وطهرتها عرقيا من ساكنيها ومن ضمنها قريتي وقرية أجدادي بربرة، واحتل الصهاينة نحو 774 قرية وبلدة فلسطينية. تهجر أكثر من 750 ألف فلسطيني إلى خارج حدود عام 1948، بينما تهجر 46 ألف فلسطيني ممن بقوا داخل أراضي الـ 48، واستشهد أكثر من 15 ألف فلسطيني في نحو 70 مجزرة صهيونية ممنهجة ضد كل ما هو فلسطيني يعيش على ارض فلسطين المباركة. "اليومين صاروا 72 سنة يا ستّي، لكن ما زلنا متمسكين بكل شبر من أرض فلسطين ولن نتنازل عن حق العودة مهما كان الثمن".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.