شعار قسم مدونات

رفعة الجادرجي والنظرية الجدلية للعمارة

blogs رفعة الجادرجي

الجادرجي، منظر العمارة العراقية الأول، ويعده البعض فيلسوف العمارة العراقية، من أهم ما أنتجت العمارة العراقية في العصر الحديث؛ أنتج المعماري رفعة كامل الجادرجي العديد من المباني المتميزة وألف كمّاً مهماً من الكتب في التنظير المعماري، ولم يغادر الدنيا إلا وقد حصل على الجوائز العالمية التي دلت على أثره في العمارة العراقية والإقليمية، كجائزة الأغا خان.

 

نظّر الأستاذ الجادرجي لتوجهه المعماري في العديد من دراساته، ووضح أنه لم يكن يميل إلى الأعمال التي تقوم بتقليد التراث أو الطرز العالمية على حد سواء؛ فهو يصنف الأعمال المعمارية في المنطقة ضمن أربع توجهات رئيسة، الأول هو توجه العمارة المحلية، والتي يصفها بالقروية، والتي يعد المعمار المصري حسن فتحي أهم روادها، والثاني يقوم بصهر المعالم التاريخية والتراثية مع العمارة العالمية في نتاج موحد يستوعب الإثنين، وهذا يمثل توجه الجادرجي، أما الثالث فيتمثل بإنشاء هيكل معاصر مطعم بعناصر منتقاة من التراث، والذي يعد المعمار العراقي محمد مكية أحد رواده، وأما الرابع فيقوم على اعتماد النموذج الغربي والعالمي.

 

ويورد الجادرجي أدلته على عدم قبوله بجميع التوجهات عدا الثاني، فتوجه المعماري حسن فتحي توجه قروي، وبحسب الجادرجي فإن التراث المعماري في مصر والعراق تراث حضري (تطور في المدن) وليس قروياً؛ أما توجه المعمار محمد مكية فهو يقوم على إلصاق العناصر على هيكل غير متوافق، ولا يعبر عن التطور الطبيعي لهذه العناصر، والإصرار على استحضارها دون الظروف التي أدت إلى إنتاجها وزوال الظروف المنتجة لها أصلاً، يعد حلاً ضعيفاً؛ كما يرفض الأستاذ التوجهات الحداثوية العالمية المُنكرة لحضور المجتمع المحلي وتأثيره في العمارة. اقترح الأستاذ الجادرجي نظريته المعمارية وسماها النظرية الجدلية ووضحها في العديد من كتبه مثل (شارع طه وهامرسمث، وفي سببية وجدلية العمارة، وحوار في بنيوية العمارة)؛ يفترض الجادرجي أن الشكل في العمارة حصيلة مقررين: المطلب الاجتماعي والتقنية الاجتماعية، وأن العلاقة بين هذين العاملين علاقة تفاعلية وجدلية، وأن الشكل هو الظاهرة المعبرة والناتجة لهذا التفاعل.

 

فالمقرر الأول هو المطلب، وهو يمثل حاجة المجتمع لهذا الشيء (العمارة)، وليس هذا المطلب نفعياً فحسب، بل هو مطلب تدخل في طبيعته المركبة الاجتماعية، فبالنسبة للجادرجي تنقسم الحاجة إلى ثلاث مركبات: النفعية، والرمزية، والإستاتيكية، فالإنسان يحتاج إلى العمارة، المبنى الذي يحميه من الحر والبرد، ويزوده بالراحة والأمان، وهذا الشق نفعي، ربما يتشابه عند جميع البشر، يليه الشق الرمزي، فالمجتمع لا يريد أي مبنى، بل يريد مبنى يتفاعل معه، ويتواصل معه من خلال علاقات ورموز متجذرة في الثقافة والتاريخ والمجتمع، وأما المستوى الثالث فهو المستوى الإستاتيكي الجمالي، فالإنسان يسعى إلى إشباع حاجته من الجمال في تكوين منشآت ممتعة بصرياً.

    undefined

نصب الجندي المجهول في بغداد من تصميم رفعة الجادرجي

 

يتأثر المطلب الاجتماعي بالتقنية الاجتماعية، إذ يطور كل مجتمع تقنياته، والتي تعتمد على مناخه، والمواد الطبيعية وتقنيات البناء والإنشاء المتوارثة من جيل إلى جيل، وتؤثر هذه المركبة وتتأثر بدورها بالمطلب الاجتماعي، وتنتج العمارة بالتالي بصفتها حصيلة لهذه العلاقة الجدلية؛ لهذا السبب يعارض الجادرجي استيراد التقنية، إذ أنها لم تنشأ في هذا المجتمع ولم تتأثر بآلاف العوامل المؤثرة لذا فهي غريبة عنه، ويورد الأستاذ الجادرجي مثالاً طريفاً لتوضيح أفكاره، فالمواطن العراقي يأكل البامية بطريقة معينة تختلف عن باقي الأمم، فهو يأكلها مع نوع محدد من التوابل دون غيرها، ودرجة طبخ دون أخرى، ويأكلها في صحن له شكل خاص دون غيره، ويأكل الكثيرون البامية باردة في الصباح، ولا يأكلها العراقيون صباح يوم العيد مثلاً مع أنه يأكلها في باقي الأوقات، فكأن البامية يناسبها وقت دون آخر، ولو تم استبدال الملعقة (أداة الأكل العراقية) بالعيدان (أداة الأكل الصينية) فإن طعم البامية لن يتغير إلا أن العيدان الصينية غير متوافقة تماماً مع ثقافة وطقوس أكل البامية عند العراقي.

 

العمارة بالتالي نتاج العديد من الظروف الاجتماعية، فكل مجتمعات الأرض مثلاُ تملك غرف معيشة في بيوتها، إلا إن طبيعة الفعاليات في هذا الفضاء، وعلاقة أفراد الأسرة مع بعضهم، وعدد ساعات البقاء في الفضاء، ونوع الأثاث وطريقة الجلوس، وخصوصية الفضاء ومكانه ضمن المنزل، وآلاف النقاط التي تنتج عن المطلب الاجتماعي والتقنيات المتاحة، تجعل غرفة المعيشة لكل مجتمع مختلفةً عن غيرها، وينسحب الأمر على جميع العناصر المعمارية الأخرى.

 

يركز الجادرجي أيضاً على عامل التصنيع في الإنتاج المعماري، فهو يتحدث مطولاً عن دور المعماري وأهمية وجوده خلال تحول المادة الخام إلى العنصر المصنَع النهائي، كتحول الخشب إلى كرسي، ويذكر أن المعماري في العصور القديمة كان حِرفيّاً، يدخل في جميع مراحل عملية التصنيع هذه، وكان نتيجة لهذا ذو مكانة منخفضة في المجتمع، حتى جاء عصر النهضة، حيث صعدت مكانة المعماري والفنان إلى طبقة النخبة، وانعزل المعمار عن عملية التحول الصناعي هذه وحدث الانفصال بين العمل المعماري وتحول المادة الخام إلى الناتج النهائي.

 

إلا إن الوقائع التاريخية في الحقيقة تشير لغير ذلك، فالمعمار في الحضارة المصرية القديمة كان مرافقاً للفرعون، وكان عالماً في الرياضيات والتنجيم أيضاً، وكذلك الحال في الحضارات العراقية، حيث كان المعمار رئيساً للكهنة، ونفس الحال مع المعماريين الإغريق والرومان، حتى معماريو العصور الوسطى، فقد كانوا رهباناً محترمين في أوروبا، وعلماء رياضيات وهندسة وفيزياء في البلاد الإسلامية، وهذه المكانة مخالفة للدور الذي أعطاه إياه الجادرجي، إلا إذا كان الجادرجي يعتبر البنّاء هو المعمار وهذا توصيف غريب.

   

  

استكمالاً على النقطة ذاتها، يذكر الأستاذ الجادرجي مثالاُ على أهمية التصنيع في تطور الفكر المعماري، فالنجار يدخل في جميع مراحل عملية التصنيع لتحويل الخشب إلى كرسي، فهو بحرفيته وعمله بنفسه يعمل على تحويل المادة الخام إلى المنتج النهائي، في حين أن المعمار انفصل عن هذه العملية، وهذه المقارنة لا تصح أيضاً، فالنجار يمكنه أن يصنع كرسياً لوحده في حين أن المعمار لا يمكنه إنشاء مبنى لوحده! وإن الحاجة إلى اختصاصات متعددة لإنشاء المبنى بسبب تعقد الحياة وتداخل الأنظمة (الكهربائية والخدمية اليوم مثلاً) أدت إلى تحول المعمار إلى دور المصمم والمراقب والمشرف، وهو يدخل في جميع المراحل التصميمية لكن يستحيل أن ينفذ كل تفصيلة بيده.

 

كما يذكر الأستاذ أن عملية تصنيع المواد وتحويلها من المواد الخام إلى المنتج (الطين إلى طابوق مثلاً) أصبحت في الوقت الحاضر عملية صناعية رتيبة بعيدة عن الحرفية اليدوية، بعد أن ابتعد المعمار عن هذه العملية، إلا إن معظم المؤسسات المصنعة للمواد والعناصر المعمارية تضم معماريين ضمن خطوط التصميم والإنتاج، وإن كان هذا المعمار هو ليس نفسه المصمم لمبنى ما، فإنه جزء من تلك الثقافة وعلى علم بالمطلب الاجتماعي والتقني لها، وعلى معرفة بارتباط العنصر المعماري هذا بالبناء.

 

ملاحظة أخرى تخص تصنيف الجادرجي للتوجهات المعمارية، فهو يعتبر التوجه الأنسب الذي تندمج في الحداثة وتقنياتها مع المجتمع المحلي وتقنياته، إلا أن أعماله في كثير من الأحيان لا تضم هذا الانصهار، فمباني الجادرجي كثيراً ما تكون هيكلاً بسيطاً محاطاً بقشرة من العناصر المشكلة تشكيلاً بصرياً مثل مبنى التأمين في الموصل ومبنى اتحاد الصناعات الوطنية في بغداد، ويظهر تشكيل متنوع المقاييس والأحجام لعنصر معماري واحد، ويصبح الشكل بالتالي تكرارات متناسقة لعنصر واحد، وهو يحوي استعارة مباشرة في بعض الأحيان.

 

وفي الوقت الذي يعارض فيه الأستاذ الجادرجي توجه المعمار محمد مكية، فإن أعمالهما تتشابه أحياناً (وليس دائماً) من خلال العلاقات الشكلية، وعلاقة الهيكل العام والعناصر المضافة إليه؛ وربما يكون أكثر مبنى يعبر عن فلسفة الجادرجي هو نصب الجندي المجهول في بغداد، والذي للأسف تمت إزالته، فقد كان المبنى يعبر فعلاً عن صهر الحداثة الكونكريتية بالمطلب الاجتماعي المحلي من خلال شكل الطاق.

 

لم يغفل الأستاذ الجادرجي دور التقنية العالمية في تطور أنماط البناء، ورفض الالتصاق بالتراث الذي انتفت تقنياته ومتطلباته، وأكد على ضرورة استعمال التقنية الحديثة ليبقى المبنى ابن عصره، كما لم يغفل أثر المجتمع وثقافته وحاجاته ورمزيته، ودعا إلى عمارة ناتجة عن التطور التحداري للثقافة، وناتجة عن العلاقة الجدلية بين المجتمع والتقنية ليكون المبنى انسانياً وإقليمياً ونتاجاً طبيعياً لتطور المجتمع المحلي ضمن العالم؛ وتبقى أعمال الجادرجي مثالاً على التنظير المعماري المتقدم في العالم العربي، وعلى شخصية أبدعت في مجالي التنظير المعماري وإنتاج الصروح المعمارية الغنية والملهمة لتطوير ناحية مهمة في الثقافة الإنسانية.

 

رحم الله الأستاذ رفعة الجادرجي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.