شعار قسم مدونات

حاسة أخرى.. تجارب عالمية في تطوير المائدة العصرية

blogs طعام

في غرفة مظلمة في الأكاديمية الملكيّة لفنون الطهي تمّ العبث مع دماغ الحضور عن طريق الشيف فريدمان هانجريش؛ حيث خطّط لذلك بدّقة هو ومجموعة من الطلاب تطبيقاً لمادة الادراك الحسي التي كان يقدمها لنا، جلس الجميع على الطاولة، هدوء تام، فقط صوت خطواته، أوضح أنه سوف تتم إضاءة الأنوار لمدة خمس دقائق؛ للسماح للجميع برؤية ماذا يحتوي الطبق، ومن ثم سوف يتم إغلاقها، يمنع منعاً باتاً لمسه أو البدء بالطعام قبل ذلك، وبعدها تم تقديم الأطباق.

 

بالنسبة لي بدأت أشمّ به عن بعد، أعتقد أن أنفي التقط رائحة مانجا، ولكن لحظة أنيرتْ الأضواء تشتت انتباهي عن الرائحة ونظرت بلهفة إلى الطبق، رأيت حبة كبة مقلية وصفار بيضة مقلية وقطعة ماكارون زهرية، بدأت أتخيل طعمها وأنتظر إطفاء الأضواء لأتذوقها، بعد 5 دقائق أو أكثر قليلا؛ تم إطفاء النور، مددت يدي لألتقط حبة الكبّة؛ نفس الملمس من الخارج، وربما أخشن قليلاً، أعتقد أن البرغل لم يُطحن جيداً، من الداخل كانت سائلة قليلاً، اعتقدت أنه وضع "صوص" مع اللحم، وبعد القضمة الثالثة بدأت أشك بأنها ليست كبة، ليس الطعم نفسه ولا حتى النكهة، أتذوق نكهة أخرى، ولكنني لا أستطيع تذكرها، ودماغي يقول لي ربما تم التعديل على الوصفة فهي كبة بالتأكيد، فأنا رأيتها، وفي القضمة الرابعة الأخيرة تأكدت بأنها ليست كبة، وهذا ما حدث أيضاً مع صفار البيض و"الماكارون".

 

كانت الكبّة عبارة عن أرز مقلي من الخارج محشي بالقليل من الملوخية السائلة، وتم تقليلها لعدم إعطاء النكهة القوية و"الماكارون" كان قد صنع من اللفت فكان طعمه ليس حلواً، أما صفار البيض فكانت حيلة المانجو باستخدام "لاكتات الكالسيوم".  تجربة كأنها أحجية للعقل ولكنها تقودنا لتأكيد صحة العبارة وبالدليل القاطع على أن الإنسان يقتنع بما يرى بطريقة أسرع مما يشعر، لأن الإنسان حين ينظر إلى الطبق، وتبدأ عملية تخيل الطعم؛ يبدأ الدماغ بإعطاء أوامر لما سيشعر به، وبالطبع هذا الأمر يأخذ وقتا للعودة والتيقن لما يحصل هنا.

  undefined

  

إن المائدة المعاصرة تتطلب حقيبة سفر تذكرة وطاقم طائرة مستعد، جميعها حُضّرَت لتمنحك التواجد في قلب السماء، لتمنحك تجربة جديدة مع الطعام، هذا ما يؤكده الشيف محمد جورز أثناء حواري معه في مطعم مِكلا في اسطنبول الذي يقدم تجربته في السفر عبر الأناضول من خلال مطبخه الذي يحمل اسم "مطبخ الأناضول الجديد" حيث يقدم تجارب عالمية في تطوير المائدة العصرية، مائدة، وليمة، سفرة معدة للضيوف أو حتى لأفراد المنزل، إنها كلمات تجعلك قادراً على تخيّل مائدة تم الاعتناء بشلكها بدقة كي تكون عيداً لِمَن تقدّم له.

 

في القديم كان الناس يعرضون ثرائهم في الولائم التي يعدونها، مائدة كبيرة، أطباق وكؤوس مزخرفة وشموع، وكانوا يستخدمون أيضاً العروض الحية كعروض الحيوانات، أو العروض الموسيقية للعمل على تقديم خدمات للحواس كافة أثناء تناول الطعام، ولكن في عصرنا الحالي لا ترتبط الموائد بالوضع الاجتماعي حيث يهتم المضيف والشيف بالإبداع والجماليات أكثر من عرض الثروة، لقد صارَ الطعام متصلا صلة تامّة بالثقافة، وأصبح الميل ُللعودة إلى الطبيعة أكثر وضوحا، إذ إنّ الكثير من الشيفات تؤمن بأن اختلاف أشكال وألوان الخضار والفواكه والأعشاب وتعدّدها تعدّ جماليّة له جاذبيّة خاصة، فمثلاً تم استخدام النيتروجين السائل الذي تكون درجة حرارته 200 درجة سيليوس تحت الصفر لفاكهة الجريبفروت؛ كي يتم فصل الشعيرات عن بعضها البعض واستخدامها لتزيين الأطباق، نعم أصحبت متعة تناول الطعام ترتكز على الشيف أكثر من زينة المطعم والزخارف والاكسسوارات.

 

إنه الاهتمام بجماليّة الطعام بحد ذاتها عن طريق تعدد طرق الطهي وأشكال التقطيع، أنواع الصوصات واستخدام الصبغات الطبيعية أيضاً، في كتاب الشيف ريني ريدزبي "رحلة ريني ريدزبي"؛ صاحب مطعم نوما العالمي الحاصل على ثلاث نجوم ميشلان يقول :"اليوم جلبنا حصادنا من الجزر، في الأَسبوعين المقبلين سوف نتأمل كيف سنضع هذا الجزر على الأطباق"، في مدارس الطهي العالمية هناك أكثر من 10 طرق لتقطيع الجزر بأحجام مختلفة إذ يتم استخدام المسطرة لقياسها كي تكون جميع القطع التي سوف يتم تقديمها في طبقك متشابهة لتقدم للعين بالطريقة المثلى، وذلك تماشياً مع تطور أهداف الطعام وتأكيداً على أننا الكائنات الوحيدة التي تهتم بمنظر ما تأكل.

   

   

عالميا تتم عملية الانتقال من مفهوم الوليمة إلى الوجبة بثلاث أدوار؛ مقبلات، طبق رئيسي على نحو كلاسيكي (خضار، نشويات، بروتين) وحلويات؛ وفي العصر الحديث تم البدء بتقديم ما يسمى بـ"قائمة تذوّق موسميّة" تتكون من 18- 22 طبق تذوقيٌ؛ هدفها خلق ملامس ومشاهد جديدة مثيرة للاهتمام بصرياً، وهذا ما قام به كلا من الشيف جرانت اتشاتز والشيف نيك كوكوناز في مطعمهما "الأنيا"، الذي صنّف كأفضل مطعم في أميركا لثلاث مرات على التوالي منذ عام 2017،.كل هذا يحصل في العالم للتأكيد على أن تناولك للطعام يحتاج لجعلك تميل إلى الشعور بجميع حواسّك؛ حيث يصفان التجربة في المطعم على أنها ليست لذيذة فحسب بل ممتعة أيضاً وعاطفية ومثيرة، إحدى الطرق التي تضفي المرح في هذا المطعم هي بالون سكاكر الهيليوم (بالون مصنّع من السكاكر منفوخ بغاز الهيليوم)، عندما تقوم بتناوله تختلف نبرة صوتك، أيضا هم أول من قدّموا فكرة سكب الحلويات أمام الضيوف على الطاولة، يتحول شيف الحلويات بها من عامل ماهر إلى مخترع فنان، تستطيع الآن عبر هذه المقالة تخيّل الشيف وهو يرسم لوحته الخاصة بك على الطاولة بألوانه الطبيعية، وضع الحمم البركانية وجعلها تتفجر بما تشتهي ودخان النايتروجين السائل يتصاعد منها لتندهش عينيك قبل فمك بما يتم تحضيره من أجلك.

   

إن الجلوس على مائدة الطعام بحد ذاته أساس الحصول على تجربة جديدة، البساطة أو التركيب المعقد، نحن نعلم أن التمتع بالطعام هو أكثر من مجرد مذاق، ولأجل ذلك تقدم طرق تتفوق على التوقعات، الطبق يتألق جماليا وأعيننا تقود الطريق، لتقدم لنا الانطباع الجمالي وتعطيك حكما ذاتياً بجماليتها الخاصة، هكذا تفسّر عبارة "العين تأكل قبل الفم"؛ عبر الموائد العالمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.