شعار قسم مدونات

رغم الكورونا.. غزة تسترق لحظات فرح في رمضان!

blogs رمضان

عندما نتحدث عن شهر رمضان فإننا نتحدث عن لمة الأسرة عند الإفطار.. صلاة التراويح في المسجد.. صوت المسحراتي وقت السحور.. فوانيس وزينة رمضان التي تملئ كل البيوت والحارات.. القطائف اللذيذة التي تُعد فقط في هذا الشهر ويُقبِل على شرائها المسلم والمسيحي وعن كل الطقوس الخاصة الجميلة بهذا الشهر الفضيل. توجهت في ذلك اليوم ساعة العصرية إلى سوق الزاوية في ميدان فلسطين بمدينة غزة هاشم هذا السوق الذي يُعد من أقدم الأسواق التاريخية وأعرقها فمن يذهب إليه يشتم رائحة عبق التاريخ في كل حانوت من حوانيته الصغيرة، فكتبت بعض الصور القلمية التي تحكي عن طقوس رمضان الجميلة في غزة رغم حصار الاحتلال الإسرائيلي وحصار فيروس كورونا.

في بداية جولتي الصحافية التقيت هناك ببائع التمور والزيتون فكل ما يبيعه في حانوته يفتح الشهية على سفرة الطعام كونه يبيع الزيتون بكافة أشكاله وألوانه والفلفل الأحمر المطحون والمكبوس وجميع أنواع المخللات فتعتبر المقبلات من الأساسيات اليومية التي تتواجد على سفرة الإفطار، سألته عن حركة البيع والشراء فقال لي أبو محمود صحاب الحانوت: أنا لي سنوات طويلة فاتح محلي الوضع ليس كَكُل عام فإن فيروس كورونا أثّر بشكل سلبي على البيع في السوق خاصة مع تخوف الناس من القدوم بشكل يومي للتسوق إلى هنا، ومع استمرار إعلان حالة الطوارئ بسبب فيروس كورونا قلت حركة الشراء في كافة الأسواق.

وأنا أسير في هذا السوق كنت أرتدي كمامة وقفازات كإجراء احترازي من فيروس كورونا المستجد وأستخدم المعقم للضرورة، وهناك كنت ألتقط بعض الصور بين الحين والآخر وفجأة سمعت كلمات موجهة لي تأتي من صحاب محل عطارة رجل ستيني كان يجلس على كرسيه أمام حانوته يقول: (صحافة صحافة تعالي عندي صوري محلي، الوضع واقف والحال واقف وإجت هالكورونا كملت علينا، بدنا العالم يشوفنا ويدعمنا غزة فيها مصيبتين مصيبة حصار اليهود ومصيبة الكورورنا اللي مش عارفين من وين إجتلنا!) كم كانت كلماته تعبر عن سوء حالته المادية والمعيشية المزرية فحانوته الصغير كان خالي تماما من المشترين وكادت الدمعة تنزرف على وجنتيه أثناء حديثه معي لولا أن سيدة أتت لتشتري منه أنقذت الموقف حينما سألته بكم بتبيع الحنة يا حاج! لحظتها انسحبتُ بهدوء من أمامه.

في آخر جولتي في هذا السوق بحثت عن بائع القطائف الذي يشتهر هناك بجودة عجينته ومذاقها الطيب وخبرته خلال السنوات فهو يُعَد من أقدم المحلات التي تبيع القطائف في هذا السوق وعندما وصلت إليه كان محله يعج بالمشترين

لمحتها من بعيد وهي تجلس وسط السوق على لوح خشبي وفي جعبتها التوت البري الطازج اقتربت منها وقلت لها كل عام وأنتي بألف خير يا حجة كيف حالك ردت: وإنتي بخير يا بنتي تعالي اشتري مني توت طازة أنا بزرعه في أرضي والصبح قطفته هالأيام موسمه، قلت لها سلم إديكي وعنيكي أكيد راح أشتري منك.. أم محمد تجاعيد وجهها تحكي مرارة ما تعيشه من حال سيء فهي تقطن في حي الشجاعية شرق مدينة غزة تأتي إلى السوق كل يوم فهي تعيل أسرتها المكونة من عشرة أفراد بعد استشهاد زوجها في الحرب الأخيرة على قطاع غزة والتي تصادف ذكراها في شهر رمضان أيضاً؛ حيث ذقنا خلالها ويلات ومآسي مخيفة لوطأة ما تحمله لنا من ذكرى موجعة كما أنه لم يشعر بنا أحد خلالها غير رب العالمين!

أما عن مشهد الفرحة داخل حانوت بائع الفوانيس وأسلاك الزينة التي تضوي كل محله وخارجه والأطفال المجتمعين عنده فكانت لا توصف حياة أمل وفرحة بعيون الأطفال فكل من أتى إلى حانوته كان يشتري منه؛ اقتربت إليه وحادثت صاحب المحل شاب عشريني قال لي: أنا خريج جامعة تخصص محاسبة لكن الظروف السيئة التي تعيشها غزة ما قبل فيروس كورونا وقلة الوظائف والبطالة جعلتني في هذا المكان حتى أبيع زينة رمضان وأترزق، لم أندهش من كلام هذا الشاب كوني أعيش في هذا البلد الصامد الصامت فغزة المحاصرة أربعة عشر عاماً ومعابر مغلقة وتعيش بلا كهرباء وخريجين على أرصفة الطرقات بلا وظائف وويلات حروب ألمت بها، غزة المدينة الصغيرة الجميلة حملت في جعبتها ألم ووجع آلاف المدن والحمد لله على كل حال.

الطفل محمد حافي القدمين ذو الأعوام السبعة صاحب العيون الخضراء والبشرة القمحية والذي ظل يلاحقني طيلة جولتي الصحافية بعربته الصغيرة التي يبيع بداخلها السمبوسك والنعناع والجرجير وكان يقول لي باستمرار: اشتري مني يا خالتي أمانة بدي أجيب خبر وحمص لإخوتي، طب بدك أريحك وأحملك أغراضك بعرابيتي طول الطريق! فهذا الطفل من سكان بيت حانون شمال قطاع غزة يأتي كل عام في هذا الشهر الفضيل حتى يبيع بعربته الصغيرة التي يجوب بها السوق ما تعده له أُمه أملاً أن يشتري منه المارة ويذهب إلى بيته فرحاً. لم أجد إجابة تشفي قلبه الصغير وقلبي الحائر طيلة إلحاحه الشديد علي كي أشتري منه، غير أني أعطيته (اللي فيه النصيب) واشتريت منه علبة سمبوسك وربطة جرجير لا بأس بها الأمر الذي جعله يطير فرحاً!.

فهناك غيره عشرات الأطفال الذين يتواجدون كل يوم في السوق فقد حملوا في عيونهم هموم لا يعلم بها غير رب العباد. سوق الزاوية هذا السوق العريق يتألف من أكثر من 30 حانوتاً أو دكاناً ويوجد في كل حانوت اللوازم الرمضانية والمنتجات الغذائية ويقصده الصائم في هذا الشهر وفيه جميع الأغراض البيتية وكافة أنواع الأجبان من جبنه صفرة وبيضة والكشكوان والحلاوة وكافة المكسرات الخاصة بحشوة القطائف، إضافة إلى تمر هندي، قطين، سوس، خروب، قمر الدين، فريكة، حمص، جوز، لوز، جوز الهند؛ وكافة أنواع الخضار والفواكه واللحوم ويكفي رائحة البهارات والتوابل التي شدتني للتمعن بأصنافها العديدة إضافة إلى رائحة العطور والمسك، وزينة رمضان الجميلة.

وأنا أسير هناك شاهدت في طريقي المسجد العمري الكبير والذي يعتبر أقدم وأعرق مسجد في مدينة غزة حيث كان وقت آذان العصر عندما قال المؤذن صلوا في بيوتكم صلوا في بيوتكم بعد إقامة الصلاة فكان المسجد خالي من المصلين في مشهد يعتصر القلوب ألماً وحزناً في هذا الشهر وهو شهر العبادة، وقفت دقيقة صمت أمامه وبالكاد استطعت احتباس دموعي وانصرفت من المكان كوني لم أستطع أكثر أختلج الدمعة في عيني خاصة بعد أن لمحني عجوز جاء بجانبي ويستند على عكازه وقال لي: الله يفرجها يا بنتي الجامع مسكر من شهرين أنا كنت مقيم فيه ليل نهار أصلي وأتضرع لله، وبعدين سكروه خلص، وفجأة وجدته أجهش بالبكاء أكثر مني!، ففيروس كورونا قضى على كل شيء جميل من طقوس رمضانية فقد قلت به العزائم والزيارات الأسرية والشيء المحزن أننا افتقدنا فيه الصلاة في المساجد والذهاب إلى صلاة التراويح وصلاة الجماعة يوم الجمعة فلم نعهد رمضان من قبل دون تراويح وهكذا الحال في المسجد الأقصى المبارك وبيت الله الحرام الذي خلا من زحام وطواف المصلين، ولأول عام يُحرم المعتمرين من أداء مناسك العمرة آخر هذا الشهر الفضيل، اللهم أزل عنا غُمة هذا الوباء وأعدنا إلى بيتك سالمين مأجورين وأنت راض عنا يا الله.

وفي آخر جولتي في هذا السوق بحثت عن بائع القطائف الذي يشتهر هناك بجودة عجينته ومذاقها الطيب وخبرته خلال السنوات فهو يُعَد من أقدم المحلات التي تبيع القطائف في هذا السوق وعندما وصلت إليه كان محله يعج بالمشترين فوقفت بجانب لوح الصاج الذي يسكب عليه العجينة ألتقط بعض الصور بعد أن أخذت الإذن منه للتصوير، وكما باقي المشترين اشتهيت حبة قطائف كوني صائمة فطلبت منه أن يلف لي نص كيلو في ظرف فقال لي مبتسماً: حاضر يا صحافة عحسابك كل المحل!أختم مقالي كل عام وشعبنا الفلسطيني بألف خير وقدسنا الأبية بألف خير وغزتنا الجميلة بألف خير، اللهم ارفع عنا الوباء والبلاء واحفظنا بحفظك وعافنا وأعفو عنا وتقبل منا صيامنا وقيامنا يا الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.