شعار قسم مدونات

العلاج بالقراءة في زمن الكورونا

BLOGS قراءة

لا يخطئ الناظر في الأسواق العالمية الهبوط في أسعار النفط والذهب، وانخفاض أرباح بعض الشركات والمؤسسات والدول، وتراجع الأسهم والبورصات.. في سلسلة جعلت دولاً تُحسب على دول الأحلام أن خسائرها بسبب "العمّ كورونا" تجاوزت خسائرها في الأزمة المالية العالمية، بل صرخت أخرى أنها أكبر ضربة لها منذ الحرب العالمية الثانية؛ ولا ندري إن طالت الأزمة بعدُ كم سيرجعون في تاريخ الخسائر! ولكن.. رُبّ ضارّة نافعة! ولستُ أعني موافقة نظرية المؤامرة، واحتساب أرباح بعض الدول والشركات والأفراد من المتاجرة وركوب "العم كورونا"؛ فالأبرياء الذين يقضون أعظم من كل الآثام. وإنما أعني الانتصار الثقافي الذي تحقق وسط خسائر مالية واقتصادية عالمية كبيرة؛ فالقراءة اليوم تنتصر.

فالوقت المتاح طويل، والناس في حيرة كيف يقتلونه ليرتاحوا من الأيام؛ فلا النوم الطويل يُنهي اليوم، ولا وجبات متعددة من الطعام تقتله بل صارت تقتلهم، ولا .. ولا ..؛ فأذّن بالناس مؤذّن الثقافة والمطالعة: علينا بالقراءة …… ولنبعث "المرحوم" المسمَّى: كتاب؛ فهذا أوانه، فنذكر أنه كان يقال له: خير جليس. ليس انتصار القراءة بما نجد المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي تطفح به من أخبار منصات التعليم الإلكتروني والتعليم عن بُعد؛ فإنما كثير منها للتكسُّب، وكلُّها لترميم نقصٍ في المدرسة التي لم تكن تُعجِب! ولا ما يكون من نظر الأطفال في المقررات الدراسية تحت التهديد والوعيد!

القراءة علاجٌ للخلافات تخنقُ حياتنا وتُفسد جمالها، في بيوتنا وعوائلنا الكبرى وفي مجتمعاتنا؛ فلماذا لا نقرأ عن أدب الاختلاف، بل لنقرأ عن التراحم والتغافل وحُسن الخُلق

فالقناعة الأساسية التي لابد أنْ يتذكرها الأهالي جيداً أنّ المنهاج الدراسي لا يعلِّم، وهو في أحسن أحواله يفتح أبواب العلم للأبناء؛ ولذا فالمقصود بانتصار القراءة اليوم: انتصار ثقافة القراءة الحرّة، فطاقات الأبناء أكبر من المنهاج، والعلاج لهذه الطاقات، وعلاج ملل الأهل منهم ومن آلام الحجر المنزلي؛ إنما هو في القراءة. ليس هذا فحسب؛ بل القراءة كذلك: علاجٌ للقصور في المنهاج المدرسي الذي لا يمكن له وحده أن يبني طفلاً مبدعاً، ولا أن يخرّج قائداً عظيماً؛ فهي فرصتنا لبناء أبنائنا وبناتنا طموحاتهم ورسم أحلام مستقبلهم.

والقراءة علاجٌ للجهل يضرب بظلاله القاتمة على أركان حياتنا؛ فنخطئ في أمرٍ من صلاتنا فيجتمع مجلس شورى العائلة كلها ولا نهتدي لفتوى، فنلتمس الجواب من "غوغل" فقيه الزمان! ولو أننا اغتنمنا فترة الحجر لقراءة متن فقهي يسير ينتهي معنا في أقلّ من أسبوع؛ لَاستغنينا به عن مشايخ ومعرّفات بحث كثيرة عند كل سؤال في عباداتنا اليومية. والقراءة علاجٌ للخلافات تخنقُ حياتنا وتُفسد جمالها، في بيوتنا وعوائلنا الكبرى وفي مجتمعاتنا؛ فلماذا لا نقرأ عن أدب الاختلاف، بل لنقرأ عن التراحم والتغافل وحُسن الخُلق؛ وليكن الحجر المنزلي دورة أخلاقية مجانية لكل أسرة فيما بين أفرادها، لنخرج من الحجر خيراً مما دخلنا فيه.. وإنما ذلك بالقراءة.

لعل أكثر مَن ظُلم في الحجر الأمهات؛ فالرباط اليومي في المطبخ طالَ عن السابق، وأنواع الأطباق المطلوبة تضاعفت، وبدأ الناس يزدادون وزناً ويقلّون نشاطاً وحيويةً؛ ولكن .. ما العلاج؟ يُروى عن عيسى عليه السلام قوله: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"؛ فماذا نحن فاعلون بأنفسنا وأبنائنا؟ فلا يمكن أن نعتني بالطعام والشراب دون الاعتناء بالروح؛ ولاشك أن بيتاً بلا قراءة هو جسد بلا روح، وغذاء البدن الطعام وغذاء الروح القراءة؛ فأضعف المقبول أن نهتم بقراءة أبنائنا كما نهتم بطعامهم، ولا يُعفينا أن نقول: لا تتوفر كتب، وإن توفرت فهي غالية الثمن؛ فلو أننا آمنا أنها لهم بأهمية الطعام والشراب على الأقل -إن لم تكن أهم- لَبذلْنَا الكثير في هذا.

بل السعي في تأمين الكتب للأبناء أيسر وأقل تكلفة من كثير طعام وشراب ومكمِّلات؛ فمَن عجز عن الكتب والقصص الورقية دخل فضاء الإنترنت، وفي وقت أقل مما تستغرقه أية لعبة يختار عيون الكتب والقصص، فيأخذها دون ثمن وتصير على جهازه. فالخطوة الصحيحة الأولى هو الإيمان بأهمية القراءة، وأن بناء أسرة قارئة ضرورة لا رفاهية؛ لا فرق في ذلك بين المتعلمين وسواهم، فلعل أبناء عمال فقراء ينتفعون من القراءة بما يعجز عنه أبناء المعلمين والأغنياء، ولعل مَن يجمع ثمن القصة خلال شهر ينتفع بها أكثر مما ينتفع أغنياء جعلوا المكتبات في بيوتهم للزينة. فالقراءة تنتصر؛ بل يجب أن تنتصر، حتى ننتصر على قسوة الحجر المنزلي، ونخرج منه بخيرٍ مما دخلناه.

ومَن انتصرت عندهم القراءة يقولون:
– القراءة كالطعام؛ فخذْ منها حين تطلبها نفسك، وإن لم يكن لك فيها هوى فعليك بالدُّربة؛ فهي في مقام الطعام الجديد تبدأ به باللُّقمة واللقمتَين، وبعدها تمضي فيه بنهَمٍ.
– لا تُلزم نفسك من القراءة لوناً واحداً؛ فاللحم والكباب يُملّ إن تكرر على المائدة، فنوِّع في أصناف المقروء، وخذ منه ما تطلب نفسك (أدب أو تاريخ أو جغرافية أو دين أو سياسة أو إدارة).
– ينصح الأطباء ببرنامج غذائي متكامل مما يحقق لجسمك كل متطلباته، وكذلك القراءة؛ فالأفضل أن تجعل لنفسك في الحجر قائمة ترمّم أو تبني بها نفسك فيها، فليكن للدِّين نصيبه في برنامج قراءتك، ثم للغة والأدب، وللجغرافية والتاريخ، وللسياسة والإدارة، وللطبخ وكل المهارات.
– لا تُجبر الأولاد على قراءة ما تحبُّه أنت؛ فامدُد لهم المائدة وانشر أنواع الأطعمة والفواكه، ثم ليأخذ كل طفل ما تشتهي نفسه، وليس ما تحبه أفضل مما يحبه؛ وتذكَّر أن أهمّ مكسب هو تمكين حبّ القراءة في نفسه، فليقرأ ما شاء ابتداءً وليتعلق بالكتاب، وبعدها تلتقيان في صفحات الكتب.

– ليس خطأً أن تبدأ بترغيب الأطفال بالمكافآت حتى يحبوا القراءة؛ فأنت تخلق فيهم عادةً إن لم تكن عندهم، ولابأس أن تجمع لهم بين الترغيب والترهيب حتى تتمكّن فيهم القراءة.
– قد يكون للطفل تعلُّق بمشاهدات من لون معين؛ فاصرفه نحوها بهدوء، فإن كان يحب "الأكشن" فاعرض عليه بعض القصص البوليسية الهادفة، وإن كان يميل للغناء أو "النشيد" فادفع إليه بدواوين الشعر المغنَّى، وإن وجدته يحبّ التطويل والأفلام فالروايات تناسبه، وإن تعلَّق بالمسلسلات التاريخية فقد يقبل كتب التاريخ وروائعه وكتب التراجم.
– قد يقبل الكبيرُ أو المتخصصُ الكتابَ الكبيرَ من مجلدات؛ ولكن لا يُنضح بها مع المبتدئين في القراءة والصغار، فلا ترهق نفسك بكتاب يتجاوز 200 صفحة في المرحلة الأولى.

– لا تعرف القراءة عُمراً؛ ولكنّ مَن يتعلق بها صغيراً تسهل عليه كبيراً، وهذه من مسؤولية الأهل؛ إذ تحكي الدراسات أن أكثر من 90 بالمئة من رغبات وميول الطفل تتشكل في السنوات الست الأولى من عمر الطفل؛ فإن لم يستطع القراءة فليجد الكتاب في يدك، حتى تستقرّ عادةً صحيةً في نفسه حين يكبر.
– حاول أن تُنشئ عاداتٍ ثقافيةً تنتفع بها أنت وغيرك؛ فمثلاً: ليس لنا اليوم رحلات ومطاعم ومنتزهات نتصور فيها، فلنجعل الصور في منصاتنا للتواصل وحالاتنا في الواتساب عناوين ما نقرأ ومختارات مما يعجبنا فيها، فهذا يفتح باباً لتبادل الكتب والفوائد مع الأصدقاء. أو جرّب أن تجعل للقراءة نصيباً في علاقاتك الاجتماعية مع الأهل والأقارب في التواصل، فلماذا لا يكون "ماذا تقرأ؟" أو "ما آخر ما قرأته؟" مع أسئلتنا: كيف حالك؟ كيف الأبناء؟ ماذا طبختم اليوم؟!
– التلفاز والألعاب عدوّ للقراءة؛ وبقدْر ما نستهلك من أوقاتنا فيها ينقص من وقت القراءة، بل ومن المساحة في عقولنا للمقروء، فلنُحسن التوازن في تقسيم الأوقات والأذهان.
– لا تمسك الكتاب دون قلم؛ فلابد أن تمرّ بفائدة أو قول يعجبك أكثر فتحدّده أو سؤال، ولا يختلف هذا في الكتاب الورقي عن الكتاب الإلكتروني؛ فمجموع الفوائد التي تخرج بها من كتاب هي ما سيبقى بشكل أطول.

إلى ما لا ينتهي من الملاحظات والفوائد ممن تنتصر عنده القراءة؛ وحين تنتصر عندك القراءة ستكتب أفضل مما قرأته هنا، فابدأ بالقراءة لأنها استقبال، ثم خذ في الكتابة لأنها إنتاج؛ واسعَدْ بما تنتج، وأَسعِد. ولنذكر أن كل واحد منا هو جزء من أمتنا "أمة اقرأ"، التي قال عدوّ لنا هو موشي ديان: "أبشّركم؛ إنَّ العربَ لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يفهمون، وإذا فهموا لا يطبقون!". فلعل هذه فرصة لتغيير واقعنا، والتغيير اليوم في واقعنا يعني رسم مستقبل أفضل لنا؛ لأنه كما قيل في المثَل الآسيوي: "إذا أردتَ أن تعرف مستقبل أمّة فانظر إلى ما يقرأ أبناؤها"؛ فإذا أردنا مستقبلاً أفضل فلابد أن نقرأ، وإذا أردنا أن ننتصر على قسوة الحجر المنزلي ونقهر "العمّ كورونا" فلابد أن تنتصر القراءة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.