شعار قسم مدونات

"التفكير الإيجابي" في زمن الكورونا.. للثقافة جائحتها أيضا

blogs كورونا

ينتشر فيروس كورونا، آسرا أكثر من ثلث سكان العالم في منازلهم، وتنتشر معه موضة "التفكير الإيجابي" على نطاق لم يسبق له مثيل، آسرة عقول المفكرين، والكتاب، والصحفيين، ورواد وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يعتقدون أنها الطريقة الثقافية الفضلى لمواجهة التداعيات النفسية لهذا الفيروس.

فلا يكفيك أنك، كمغترب مثلا، بعيد عن الأهل والأحباب في وحدة الغربة وصقيعها، مقطوع عن الخارج، تناجي برودة الجدران في شقة تتراوح مساحتها بين 9 و15 مترا مربعا على أحسن تقدير، تحترف ـ كما تقول فيروز ـ الحزن والانتظار، همومك كالفيروس تتكاثر بين عالمين، تتابع بقلق الأخبار عن أعداد المصابين والموتى في بلد إقامتك، وعن تطوّر تلك الأرقام في بلد منشئك، محاولا الاطمئنان عن الأصدقاء هنا، وعن الأهل والخلان هناك، بل عليك أيضا أن تتحمّل، بالإضافة إلى كل ذلك، وبمجرد أن تفتح الانترنت محاولا الهرب من واقعك المأزوم، وابل النصائح التي يتبرّع منظّرو التفكير الإيجابي ومريديه بأن يمطروك بها من كل حدب وصوب، وبكل لغات العالم.

فلعلّ أصعب ما في حالة الحجر الصحي الشامل المفروضة في كثير من البلدان، هو أنه عليك أن تتعايش مع طوفان "الموجات الإيجابية" التي تغزو الإنترنت، وأن تصمت أمام التنظير حول حسناتها، والذي لا يخلو في كثير من الأحيان من السذاجة -كي لا نقول من السخافة-، أكان ذلك التنظير من باب ديني أو دنيوي، من قبل أناس غير ذي اختصاص ديني أو نفسي في أغلب الأوقات؛ وإلا، في حال تجرأت على التمرد على نمط التفكير السائد وعلى هذه الثقافة الجماهيرية، تم وصمك مباشرة بالنكدي المتشائم.

لعلّ التشبث بالتفكير الإيجابي وحده كوسيلة لمواجهة هذه المصيبة، والإفراط بالتغنّي في إيجابيات الحجر الشامل المفروض على شعوب بحيلها، ليسا إلا تعبيرين عن متلازمة ستوكهولم معممة

فبالإضافة إلى النصائح المباشرة، تتجلى جائحة التفكير الإيجابي في زمن الكورونا، من جهة أولى، في الكم الهائل من التحليلات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية المفرطة بالتفاؤل، التي تفتقر في كثير من الأحيان إلى الواقعية والجدية العلمية، بأنّ فيروس كورونا سوف يغيّر العالم نحو الأفضل، لا سيما فيما يخص الأحلام باقتصاد عالمي أكثر إنسانية، والأوهام حول نظام عالمي جديد أكثر عدلا. أمّا من جهة ثانية، فتبرز دوغماتيات "التفكير الإيجابي" وديماغوجيته في تلك السرديات اللامتناهية عن يوميات الحجر التي يمنّ بها عليك -دون أن تكون قد طلبتها منهم أصلا- كتّاب يصفون خلالها حياتهم -البورجوازية في أكثر الأحيان-، ويتبارون في وضع لوائح تعدّد النقاط الإيجابية للحجر الشامل وحسناته. أناس يريدون إقناعك ـ وإقناع أنفسهم أولا ـ بشتى الوسائل، بأنّ حالة الحجر هي فرصة استثنائية لك، وللأرض، والمناخ، والطبيعة، والبيئة، لا بل وللبشرية جمعاء، فرصة نادرة لن تتكرر في حياة الانسان الخاصة والعامة، على البشرية أن تقتنصها من أجل التغيير الراديكالي في كل شيء.

في كتابهما "جدل التنوير" الصادر في نيويورك سنة 1944، يخصص الفيلسوفان الألمانيان تيودور أدورنو وماكس هوركهايمر فصلا لنقد ما يسمّيانه "الصناعة الثقافية"، أي لنقد الثقافة الجماهيرية (وهي تختلف اختلافا كبيرا عن مفهوم الثقافة الشعبية) التي يتم "تصنيعها" على نطاق واسع، كمنتجات تجارية استهلاكية، في "معامل" ثقافية، لا سيما في دور الطباعة والنشر والصحافة، وشركات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وفي عدد من كبريات وسائل الميديا والإعلام المرئي والمسموع، بالإضافة، اليوم، إلى وسائل التواصل. ينبّه أدورنو وهوركهايمر في كتابهما من أنّ الصناعة الثقافية لا تتوق إلى تحرير الفرد بل تؤدي، على العكس من ذلك، إلى توحيد أنماط حياة الفرد، بالإضافة إلى هيمنة المنطق المالي الاقتصادي المركانتيلي، إلى جانب تسيّد التسلّط والاستبداد، أكان ذلك في الأنظمة الديموقراطية أو التوتاليتارية. وبذلك، تساهم الصناعة الثقافية، بحسب الكاتبان المنتميان إلى مدرسة فرانكفورت الفلسفية، في معاداة التنوير كفكر وثقافة.

وفي نفس السياق، فإنّ موضة التفكير الإيجابي هي وليدة التصنيع الثقافي الذي نبّه منه الفيلسوفان الألمانيان، إذ تتبناها "المعامل الثقافية" ـ المذكورة آنفا ـ وتنشرها على أوسع نطاق. وكمثال على ذلك، يكفي التأمّل في ظاهرة الكاتب البرازيلي باولو كويليو، التي تباع كتبه في كل مكان، حتى في السوبرماركت (هنا في فرنسا مثلا)، فتجدها مصفوفة كأي منج استهلاكي، إلى جانب رفوف الخضار والأجبان. تقوم فلسفة كل روايات كويليو على فكرة أساسية واحدة: ضرورة التفكير الإيجابي والتفاؤل الدائم والمستمر، ونشر "الذبذبات" الإيجابية على أوسع نطاق، حتى انتشرت العدوى بواسطة اقتباسات من رواياته على كافة وسائل التواصل. ولنشر ثقافة التفكير الإيجابي، لم يكتف التصنيع الثقافي بروايات من الحاضر، بل تعداه عائدا إلى الماضي أيضا، لا سيما إلى اقتباسات من التأملات الشاعرية للمتصوف جلال الدين الرومي مثلا. كما أنّ التصنيع الثقافي لم يكتف بالأدب وحده كوسيلة لنشر ثقافة التفكير الايجابي، بل وجد ضالته لذلك في كتب الفلسفات والديانات الآسيوية أيضا، الهندية والبوذية منها على وجه التحديد.

وبالعودة إلى الكورونا، تنمّ جائحة التفكير الإيجابي في زمنها، في أحيان كثيرة، عن تفكير ساذج طفولي، ودفن للرؤوس في الرمال، وعن حالة من النكران العام من قبل من لا يريد مجابهة الواقع القاتم، الصحي والمالي والاقتصادي، الذي أنتجته هذه الجائحة. لعلّ التشبث بالتفكير الإيجابي وحده كوسيلة لمواجهة هذه المصيبة، والإفراط بالتغنّي في إيجابيات الحجر الشامل المفروض على شعوب بحيلها، ليسا إلا تعبيرين عن متلازمة ستوكهولم معممة، بواسطة الصناعة الثقافية، لا سيما ثقافة التفكير الإيجابي، على أكثر من ثلث شعوب المعمورة. وعليه، أصبح الاكتئاب في زمن الكورونا، حقّ من الحقوق الأساسية للإنسان، حقّ يجب الدفاع عنه أمام جحافل رسل التفكير الإيجابي وكهنته، الذين يريدون إخضاع الجميع لنمط تفكيرهم الايجابي، وقمع الحق بالاكتئاب، وإسكات الأصوات المطالبة به والمعبرة عنه، بأي وسيلة ممكنة.

كلا، لن يرضخ الجميع لجائحة التفكير الإيجابي ولإملاءات الغلاة من مريديها في زمن كورونا. فلنترك الناس بسلام. فمن حقهم أن يشعروا بالألم، لا سيما امام أعداد المصابين وقتلى الفيروس؛ من حقهم ألا يكتموا قلقهم امام المصيبة التي حلت بالعالم، قلقهم على أنفسهم، على ذويهم، على المستقبل، لا سيما حول إمكانية فقدان عملهم؛ من حقّهم أن يتأففوا من الحجر الشامل دون أن يجري تخوينهم (دون أن يعني ذلك عدم التزامهم بالحجر)؛ من حقّهم أن يعبّروا عن حزنهم؛ من حقّهم أن يتنعّموا بدفء "الطاقة السلبية" إذا أرادوا ذلك؛ من حقهم أن يشعروا بالاكتئاب دون أن يتمّ وعظهم ليل نهار. لا بل على الأرجح، من الأفضل ان يفعلوا ذلك الآن، بدل أن يكبتوا حزنهم، فينفجر ـ كما نبّه من ذلك أب السيكولوحيا الحديثة، سيغموند فرويد ـ عقدا واضطرابات نفسية، في المستقبل القريب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.