شعار قسم مدونات

الذاكرة الوراثية.. هل يمكن أن تنتقل الذاكرة عبر الأجيال؟

BLOGS تفكير

قد يبدو موضوع هذه المقالة في مُنتهى الغرابة للوهلة الأولى، ولكن ألم يتسائل أحدكم يوماً عن إمكانية توارث الذاكرة جينياً عبر الأجيال؟ رغم أن بعض مسائل هذه النظرية لاتزال قيد الجدل، تشير بعض الأبحاث العلمية الحديثة إلى إمكانية حدوث ذلك في البشر، ولهذا فقد سُميت هذه النظرية بالذاكرة الوراثية. بدايةً، دعونا نوضح ما هو المقصود بهذه النظرية:

تُعرّف الذاكرة الوراثية – بإختصار- على أنها تلك الذاكرة التي تكون منغرسة في الإنسان فطرياً منذ الولادة، أي أنها الفطرة التي توجد تلقائياً من غير أي تجربة مسبقة، حيث أنها تأتي من تجارب الأجيال السابقة. بمعنى آخر، هي تلك الذاكرة التي تنتقل جينياً إلى الأجيال من تجارب وحوادث معينة عاشتها الأجيال أو الأسلاف السابقة. فمثلاً، يمكن اعتبار اللغة كجزء صغير من الذاكرة الوراثية، حيث أن الإنسان يتفرد بمقدرته على تعلم اللغة فطرياً منذ الولادة. كما أن بعض الغرائز، ربما، يمكن أن تُعتبر جُزئياً أحد أنواع الذاكرة الوراثية، كغريزة الرضاعة عند الأطفال، على سبيل المثال لا الحصر. ولكن سنتطرق في هذه المقالة إلى بعض الدراسات الحديثة التي سلطت الضوء على الجوانب الغريبة لهذه النظرية:

الدراستين الأولى والثانية:
بعض الدراسات أوضحت أيضاً أن الاكتئاب والصدمة النفسية لدى الأم الحامل، على سبيل المثال، يمكن أن يؤثرا بشكل ملحوظ على البنية العقلية لجنينها، حيث أنهما قد يزيدا من احتمالات تطور المشاكل النفسية، كما قد يصبح الجنين أكثر عرضة للمشاكل النفسية كالاكتئاب أثناء فترة المراهقة

توصلت بعض أبحاث العلم العصبي على الفئران إلى نتيجة فحواها أن بعض التجارب والحوادث التي يعيشها الوالدان يمكن أن تؤثر بشكل ملحوظ على الأجيال اللاحقة. حيث أفادت الدراسة الأولى بأنه بعدما تم تعويد نوع من الفئران على الخوف الشديد من رائحة معينة عن طريق صعقهم كهربائياً، لوحظ أن ذلك الخوف انتقل إلى الأجيال اللاحقة، والتي أصبحت تخاف وتتحسس بشدة من نفس الرائحة عند التعرض لها لأول مرة، رغم أنها لم تُدرب على الخوف ولم تقابل تلك الرائحة من قبل. كما أنه عُثر على بعض التغيرات التي طرأت على بنية المنطقة المسؤولة عن كشف تلك الرائحة في المخ. استنتج الباحثون بشكل غير حاسم أن الحوادث والتجارب التي يعيشها الوالدان، حتى قبل الحمل، تؤثر بشكل كبير على كل من البنية والوظيفة للجهاز العصبي لدى الأجيال القادمة.

هذه النتائج تُلمّح إلى إمكانية تناقل المشاكل والصدمات النفسية والعصبية جينياً عبر الأجيال حتى عند البشر. وبصيغة أكثر دقة، هذا يعني أنه عندما تعرض أسلافنا إلى فترات من الضغط النفسي أو العصبي الشديد، فهذه "التجارب" يمكن أن "تُضاف" إلى الجينوم الخاص بهم وتنتقل إلينا، حيث أن طبقة إضافية من المعلومات تتوضع فوق سلاسل الدنا (DNA). لا تتغير سلسلة الدنا بحد ذاتها، ولكن "ملابسها" تتغير – إذا جاز التعبير. فضلاً عن ذلك، فقد لوحِظ أن مستوى الكورتيزول في الدم يكون منخفض أكثر عند أحفاد الأشخاص الناجين من المجازر والابادات الجماعية، وهذا قد بلعب دور في جعلهم أكثرعرضةً للخوف والإصابة بالفوبيا والضغوط النفسية والعصبية.

بشكل عام، يُعرف هذا بـ "علم التَّخَلُّق المتعاقب" أو "علم ما فوق الجينات" (Epigenetics). يُسميها بعض العلماء الذين أجروا هذه التجارب "انتقال المعلومات البيئية عبر الأجيال". أحد أبرز الأمثلة الحديثة في "علم ما فوق الجينات" تم ملاحظتها في الفئران أيضاً. حيث أفادت بعض الدراسات العصبية الحديثة على الفئران بأن بإمكان الأم تحديد ما اذا كان صغارها ستكون فئران هادئة أو هائجة عند بلوغها، وذلك حسب الفترة التي تقضيها في الاعتناء بهم. يتم ذلك بحسب الفترة التي تُمضيها الأم في لعقهم وحضنهم، بالتحديد. لاحظ العلماء أنه إذا كانت أمهات الفئران تُمضي أوقاتاً طويلةً في لعقهم والاهتمام بهم، فإن ذلك سيجعل من صغارها فئراناً هادئة. في المقابل، اذا لم تكن الأم مهتمة بصغارها، والذي يتم التعبير عنه عادةً عن طريق اللعق لفترات قصيرة، فإن ذلك سيجعل من صغارها فئراناً هائجة. وبالتالي فإن هذا يعني أن الفرق بين الفئران الهادئة والهائجة يُعزى إلى عوامل ليست "جينية"، وإنما يتم تسميتها في الحقيقة عوامل تنشيئية تتحول إلى عوامل"فوق جينية" عند انتقلها إلى الأجيال القادمة. فطريقة التنشئة والتربية التي تتبعها الأم خلال الأسابيع الأولى هي التي تحدد جينوم صغارها، وهذا بدوره يمكنه أيضاً الانتقال إلى أجيال الفئران القادمة من غير أي عوامل بيئية مساعدة، مما يعني أنه يمكن اعتبارها دليلاً قوياً على الذاكرة الوراثية.

أيهما أفضل يا تُرى، الفأر الهادئ أم الهائج في عالم الفئران؟

قد تكون الفئران الهادئة أكثر أماناً وارتياحاً من الفئران الهائجة في حال كانت تعيش في بيئة هادئة غنية بالمصادر الغذائية. أما الفئران الهائجة، من ناحية أخرى، من المرجح أن يكون لها مكانة اجتماعية منخفضة، فتعاني بذلك من أمراض مختلفة، مثل السكري وأمراض القلب. ولكن في بيئات أخرى، قد يكون العكس صحيحاً تماماً. ففي البيئات التي تكون شحيحة بالموارد الغذائية والتي تكثر فيها الحيوانات المفترسة، تكون الفئران الهادئة أكثر تعرضاً للخطر بسبب هدوئها عند البحث عن الطعام، مما يجعلها فريسة سهلة مقارنةً بالفئران الهائجة.

إن ما يثير الدهشة أيضاً هو إمكانية حدوث هذا النوع من "الوراثة الفوق الجينية" في البشر. فقد أظهرت الدراسات أن الأطفال المولودين خلال فترة المجاعة الهولندية زادوا من معدلات الإصابة بأمراض القلب والسمنة بعد تعرض الأم للمجاعة الشديدة خلال فترة الحمل المبكرة مقارنة بأولئك الذين لم تتعرض أمهاتهم. كما أن بعض الدراسات أوضحت أيضاً أن الاكتئاب والصدمة النفسية لدى الأم الحامل، على سبيل المثال، يمكن أن يؤثرا بشكل ملحوظ على البنية العقلية لجنينها، حيث أنهما قد يزيدا من احتمالات تطور المشاكل النفسية، كما قد يصبح الجنين أكثر عرضة للمشاكل النفسية كالاكتئاب أثناء فترة المراهقة، مثلاً.

الدراسة الثالثة:

تقول الدكتورة بيريت بروجارد (Dr Berit Brogaard) المتخصصة في علم الأعصاب وفلسفة العقل في مقابلة لها أن "هناك دليل في القوارض يدل على إمكانية توريث بعض ما يتعلمونه إلى الأجيال اللاحقة. كما أردفت قائلةً "ما لا نعرفه الآن هو ما إذا كانت تجاربنا البيئية تترك علامات كبيرة على الدنا DNA، فنحن نعلم أن الفوبيا وبعض المشاكل النفسية يمكن وراثتها جزئياً، ولكن لم يتبين بعد أنه إذا كان من الممكن أن يكون أحد الوالدين قد عانى من الاكتئاب أو بعض المشاكل النفسية الغير وراثية، وبعدها أن تتخزن هذه بطريقة ما في الدنا (DNA) ومن ثم تنتقل إلى الأبناء. هذا هو أحد الأشياء التي لا نعرفها ولكنها بالتأكيد ليست عملية مستحيلة". تختتم قائلة "سيكون من المثير للاهتمام معرفة ما إذا كان بالإمكان تشفير بعض التجارب في الدنا DNA. على سبيل المثال، أن يحدث لك شيء قبل الإنجاب، ويتم تشفيره في الدنا ومن ثم ينتقل إلى أولادك. علينا أن نكتشف أولاً ما إذا كان حدوث شيء ما أثناء فترة حياتنا يؤثر أو يُضاف إلى الدنا الذي يتوارثه الأبناء".

بناءً على ما سبق، رغم أن موضوع الذاكرة المتوارثة عبر الأجيال لايزال قيد الجدل ورغم افتقاره إلى العديد من الأدلة الحاسمة – خاصةً في البشر – يمكننا القول بأن نظرية الذاكرة الوراثية يمكنها – على الأرجح – أن تُفسر بعض أسباب الفوبيا وغيرها من الاضطرابات النفسية والعصبية. بالطبع، إن من نافلة القول أن البيئة هي التي تؤثر على هذه الاضطرابات في المقام الأول، ولكن "علم ما فوق الجينات" والذاكرة الوراثية سيضيفان وجهة نظر جديدة تستحق الاهتمام، حيث أنهما يبينان لنا أن التجارب القاسية والصدمات النفسية والاضطهاد التاريخي، كالاستعباد والمجازر والظلم القسري والتعذيب في السجون، على سبيل المثال، لا تؤثر فقط على من يتعرضون لها، وإنما يتم – بشكل أو بآخر – تخزينها في الدنا (DNA) ومن ثم انتقالها جينياً عبر الأجيال. علاوةً على ذلك، هذا قد يعني أنه ما يتعرض له الوالدان من ضغوط وصدمات نفسية وعصبية أثناء فترة حياتهم يمكن أن ينتقل- بطريقة أو بأخرى- إلى أولادهم أو الأجيال التي تليهم، وهذا الاستنتاج يعُيدنا من جديد إلى الجدل الحامي الوطيس ما بين "الطبيعة والتنشئة". لا شك بأن هذه النظرية ستظل موضعاً مثيراً للاهتمام والجدل، حيث أنها قد تفتح أمامنا أبواب مختلفة لفهم أمراض واضطرابات نفسية شتى، بل وقد تكون مفتاحاً لحلها أو تجنبها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.