شعار قسم مدونات

الابتكار المُقتَصِد.. المفهوم الذي نحتاجه الآن

blogs تطوير

الابتكار المُقتَصِد هو المبدأ الذي نحتاجه في وقتنا الحالي أكثر من أي وقت مضى، خاصة في ظل الحاجة لتوفير مستلزمات الوقاية الشخصية في ظل أزمة وتفشي جائحة الكورونا COVID 19 واستوت الحاجة للمفهوم لدى الدول الفقيرة والمتقدمة بل ولدى أكثر المجتمعات رفاهية في العالم. فالجميع تداعى إلى حث الأفراد والشركات على سرعة إنتاج متطلبات الوقاية الشخصية من أبسط الموارد وبأقل التكاليف وأسرع وقت، وهنا تكمن نواة هذا المفهوم، الذي ارتبط الحديث عنه عقدا من الزمن بدول العالم الثالث، بل بالتجمعات الهشة في هذه الدول.

  

تم تسليط الضوء على مفهوم الابتكار المقتصد بداية في مقالة عام 2010 في مجلة الإيكونوميست The Economist، حيث أشارت إلى أن جذور هذا المفهوم تعود لفترة الخمسينيات، في حين أن العوائد من تلك المبادرات قد تكون بدأت في الثمانين حيث أطلقت بعض الشركات منتجات معتمدة على هذا المبدأ. ويكتسب هذا المفهوم شعبية خاصة في منطقة جنوب آسيا وخاصة في الهند وبعض الدول الإفريقية. وقد أشارت وزارة التجارة الأمريكية إلى الهند وإنجازاتها المبتكرة، قائلة في عام 2012، هناك العديد من الشركات الهندية التي تعلمت وطبقت إجراءات البحث والتطوير R and D في البيئات المحدودة الموارد ووجدت طرقًا لاستخدام التكنولوجيا المناسبة محليًا.

   

في عام 2015، شارك نافي رادجو Navi Radjou الهندي الأصل ويحمل الجنسية الأمريكية والفرنسية وجايديب برابهو في تأليف كتاب Frugal Innovation-How to Do More With Less، الذي نشرته مجلة The Economist حول العالم، إضافة إلى الكلمة التي ألقاها رادجو في مؤتمر TED السنوي عام 2014، ومن هنا بدأ الانتشار الأكبر للمفهوم. يوضح رادجو في الكتاب كيفية توفير منتجات عالية الجودة وتحقيق الانتشار الواسع، وأيضا يوضح حاجة الشركات للابتكار المُقتصد وتقليل نفقاتها. ويقدر حجم السوق الذي يحتاج لهذا النوع من الابتكار بحوالي تريليون دولار، كان ذلك في عام 2015، قبل جائحة كورونا الحالية، حيث تضاعفت الحاجة إليه كثيرا الآن.

   

لفظة Frugal تعني المُقتَصِد والحريص الموفّر، وعندما تقول لشخص ما be frugal فكأنك تقول له شُدّ حزامك واقتصد، ونصف أيضا المنتجات المقتصدة بقولنا إنها منتجات على قد الحال. وعندما ارتبطت مفردة Frugal مع الابتكار والهندسة، نشأ المفهوم الجديد للابتكار المُقتَصِد Frugal Innovation أو الهندسة المُقتَصِدة Frugal Engineering كما يسميها البعض. ويلزم الانتباه هنا أنها لا تعني الابتكار لمجرد الابتكار وتقديم شيء جديد، ولكنها تعني الابتكار المفيد لشريحة واسعة من الناس بموارد متاحة لجعل الخدمة أو المنتج في متناول أيديهم بسهولة.

      

  

باختصار شديد، الابتكار المُقتَصِد يعني توفير منتجات ذات جودة عالية بموارد محدودة. منتجات تلبي احتياجات شريعة واسعة من الناس تحتاج خدمة محددة ولا تستطيع بمواردها المحدودة الحصول على الخدمات المتاحة في السوق، فتلجأ الشركات للتعديل على بعض منتجاتها، وذلك بإزالة العديد من المزايا وتقديم منتجات بسيطة تؤدي الخدمات الأساسية وبثمن مناسب للشريحة الواسعة من الجمهور، ومن ذلك إنتاج سيارات زهيدة التكلفة وهواتف نقالة بسيطة كالتي تنتجها شركة نوكيا ولا زالت تستخدم على نطاق واسع رغم التطور الهائل في هذا المجال مثل Nokia 2011 الذي حقق مبيعات زادت عن 250 مليون قطعة. إن الابتكار المُقتصد ببساطة هو نقلة نوعية في المنتج وفي الأسلوب.

     

عودة إلى الهند التي تزخر بالنماذج على الابتكار المقتصد أكثر من غيرها لدرجة أنه أصبح مفهوما محليا دارجا يطلق عليه Jugaad وجوجاد هي كلمة عامية هندية وبنغالية وبنجابية تعني الترجمة المحلية لمفهوم الابتكار المقتصد غير التقليدي، أو الاختراق، وهو ما يشير إلى الحلول المبتكرة البسيط التي تضمن تطويع الموارد في المنتجات التي تلبي الاحتياج، فيصفون منتجا معينا بأنه جوجاد.

   

النماذج التي توضح هذا المفهوم كثيرة ومنها صانع الخزف الهندي Prajapati الذي صنع ثلاجة من الطين لتخزين الخضار والطعام بكفاءة في منطقة تفتقر إلى الكهرباء والآن تحولت لشركة MittiCool التي تصنع العديد من المنتجات من الطين لتلبي الاحتياج المحلي، والشاب الذي استطاع توفير شاحن للموبايل من خلال حركة دينامو الدراجة الهوائية في قرية نائية، ومضخة المياه الزراعية التي تدار من خلال محرك الدراجة النارية، وبعض النماذج المحلية التي تقدم خدمة الاشتراك في شبكة الانترنت اليومي من خلال مبالغ زهيدة لموزعين محليين. ومن الأمثلة المميزة التي حصدت أهمية وشهرة كبيرة في هذا المجال:

   

هذا المفهوم يعزز الحاجة إلى تعميم مفاهيم مرتبطة به مثل منهجية التصميم التفكيري Design Thinking ومنهجية الابتكار المفتوح Open Innovation وكذلك الحاجة إلى إنشاء مختبرات الابتكار المقتصد

• خدمة M-Pesa وهي تقديم الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول لسكان كينيا دون الوصول إلى المصارف وبدون الحاجة إلى حساب مصرفي. وذلك بالاعتماد على الانتشار الواسع للهواتف المحمولة في كينيا، بينما لا يزال العديد من السكان ليس لديهم حساب مصرفي، فابتكرت شركة الهاتف المحمول Safaricom هذه الخدمة لسد الفجوة والتي بسببها أصبح بإمكان السكان الآن إجراء التحويلات مالية والتوفير من خلال الهواتف النقالة. والخدمة تقدم حاليا من معظم مزودي خدمات الهاتف المحمول في كينيا.

  

• منتجات شركة M-KOPA وهو صندوق يحتوي عدة أجزاء أهمها لوحة الطاقة الشمسية، إضافة إلى لمبات وشاحن موبايل وأحيانا ثلاجة صغيرة حسب الطلب، وشاشة تلفزيون. يستطيع الزبون دفع جزء بسيط من ثمن المنتج نقدا فقط، ثم يقوم بسداد الباقي على مدار سنة كاملة من خلال السداد اليومي عبر خدمات الموبايل بحوالي 50 إلى 100 سنت فقط وذلك حسب قيمة المنتج.

  

• منتج Foldscope وهو عبارة عن مجهر بصري للتكبير يتكون من مجموعة الورق المقوى والعدسات بتكلفة لا تزيد عن دولار واحد فقط، تم تطويره من قبل العالم الهندي Manu Prakash ليكون متاحا للجمهور وخاصة الطلاب. وبعد ظهور النموذج الأول يجري حاليا تطوير اثنا عشر نموذجا مطورا عنه تستخدم في أغراض محددة أخرى.

 

• جهاز طبي Xikang وهو جهاز صغير مطور لتقديم خدمة الرعاية الصحية لكبار السن في الصين، حيث يتوقع أن يصل عددهم خلال السنوات القادمة إلى حوالي نصف مليار شخص. هذا الجهاز الذي طورته شركة Neusoft الصينية تقوم فكرته على مزيج من الخدمات والأفكار ومنها انترنت الأشياء IOT والمنصات السحابية للخدمات الصحية والموارد الطبية المميزة. ويقدم الجهاز خدمات وارشادات صحية للمتابعة الصحية والوقاية من الأمراض المزمنة للأفراد والأسر الصينية.

 

هذا المفهوم يعزز الحاجة إلى تعميم مفاهيم مرتبطة به مثل منهجية التصميم التفكيري Design Thinking ومنهجية الابتكار المفتوح Open Innovation وكذلك الحاجة إلى إنشاء مختبرات الابتكار المقتصد Frugal Innovation Labs وتعزيز المفاهيم لدى المبتكرين والرواد بالتركيز على الحاجة لدى المستخدم في التفكير والابتكار، وليس بالضرورة التركيز على أعلى درجات الرفاهية والتطور فتموت ابتكاراتهم وأفكارهم ولا تجد من يتبناها. والتفكير المقتصد يتطلب تغييرا في منهجية التفكير من حيث التركيز على البساطة، التفكير بشكل مختلف، التفكير بصحبة أصحاب العلاقة والاحتياج، زرع المفاهيم الإيجابية في المحيطين، والتفكير في الاستدامة رغم التحديات المحيطة، فالابتكار المقتصد في جوهره هو الحد من التعقيد وإضفاء اللمسة البسيطة على المنتج وشعاره Do More with Less.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.