شعار قسم مدونات

السودان ومسار التحول الديموقراطي

blogs السودان

يرى كثير من المتابعين للوضع الانتقالي في السودان أن التحالف الحاكم متمثلاً في قوى الحرية والتغيير فوت فرصة تاريخية لإنجاز التحول الديموقراطي في السودان، حيث يرتبط إحداث تغيير سياسي آمن -حسب تقديري- في بلد ما بعدد من العوامل ابتداء من ثقافة المجتمع وخبراته التراكمية كما يتوقف نجاح التغيير على حدوث حد معقول من الإجماع الشعبي لإرغام النظام السياسي على التنحي وأخيراً قيادة خلاقة وملهمة لهذا الحراك مهمتها تعبئة هذه الطاقات واتخاذ قرارات تتعلق بتخطيط المستقبل ورسم المسار للجماهير للوصول لدولة الحرية والسلام والعدالة، فالتغيير الذي حدث في أبريل من العام 2019م في الخرطوم هو امتداد لوعي تاريخي وثورات مستمرة كان القاسم المشترك بينها حوجة السودانيين لمنهج حكم يتفق مع النظم الأخلاقية، السياسية والاقتصادية لطبيعة تكوينهم الاجتماعي، العرقي والديني.

 

بدأت معالم الدولة المركزية في التشكل منذ زمن بعيد في السودان لكن فترتي الاستعمار التركي والبريطاني عملا على تجريف الهوية الوطنية الجامعة وهي ارتباط الإنسان بالجغرافيا الأمر الذي أورث السودان نظام سياسي، اقتصادي غير مناسب لحكم البلاد فالمستعمر هو الذي أشرف على أول انتخابات نيابية وهو الذي رعى تأسيس كل الأحزاب السياسية وقتذاك، والبريطانيون هم الذين أسسوا اقتصاد صادر لمصلحتهم هم ولم يُدرك رواد الاستقلال الأوائل هذا الجانب ولم يتخذوا خطوات فعلية لهيكلة الاقتصاد وتحويله لاقتصاد وطني عادل يلبي كل أشواق السودانيين، لاحقاً تطور المُشكِل السياسي، الاقتصادي والاجتماعي وتمظهر في انقلابات عسكرية وثورات شعبية كان كل هدفها العودة الى الجذور إلى حقبة ما قبل الحكم التركي المصري وكانت ثورة ديسمبر ملخص لهذه التوجهات لكن قوى الحرية والتغيير فشلت في أن تترجم هذه الثورة لتوافق سياسي يُنهي حالة تيه العقل الوطني السوداني.

 

مثلت قضية السلام اختبار حقيقي لحكومة الحرية والتغيير حيث أن كل الحركات المسلحة موقعة على ميثاقها لكن بالرغم من ذلك نجد أن الأحزاب السياسية أقصتها من الحكومة وحلت مكان المؤتمر الوطني وأصبحت تفاوض حلفاء الأمس رغم الحديث الإعلامي المستهلك حول نضالات حركات الكفاح المسلح -كما يسمونها- الشيء الذي جعل الحركات المسلحة تفقد الثقة في المكون المدني في الحكومة الانتقالية وأصبحت أقرب ما يكون للمكون العسكري في الموقف التفاوضي الغريب في الأمر أن كل أحزاب الحرية والتغيير كانت تتخذ من خطاب المركز والهامش وجدليته موضوع رئيسي في المنابر قبل الثورة ولكن بمجرد وصولهم للحكم تنكروا لهذا الخطاب وعجزوا عن تحقيق نصف سلام وحتى التقدم الطفيف في التفاوض مؤخراً كان بنفس النهج القديم تقاسم للثروة والسلطة ولم يناقش جذور الأزمة كما يقولون هم.

 

على صعيد العلاقات الخارجية فإن التخبط في ملفات مهمة وحساسة مثل ملف سد النهضة أبرز سمات الحكومة ومن المعلوم أن السودان هو جزء أصيل من أصحاب المصلحة في التفاوض

وبالرغم من أن المطالب السياسية التي تتعلق بإصلاح المجال السياسي كانت حاضرة بقوة في ثورة ديسمبر لكن لا يستطيع أن ينكر أحد أن الثورة انطلقت شرارتها بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة ومن المعلوم أن الحكومة الانتقالية استلمت مقاليد الحكم في ظل إجماع شعبي معقول لكنها فشلت في التعبئة العامة من أجل عمل قفزات النوعية في البُنى التحتية والهيكلية للاقتصاد وتفاجأ كل المتابعين بالأداء الهزيل لوزراء الحكومة وبالأخص وزراء القطاع الاقتصادي فشهدت وتشهد البلاد صفوفاً متطاولة من أجل الحصول على رغيف الخبز والمحروقات وأصبح تيار الكهرباء غير مستقر بعد عجز الحكومة عن إيفاءها بمستحقات البارجة التركية في بورتسودان وبسبب تجاهل صيانة محطتي بحري وأم دباكر هذا على صعيد الأساسيات أما في بقية السلع فالتضخم تجاوز الستون في المائة وانخفض سعر الجنيه أمام الدولار ليصل لأكثر من 130 جنيه للدولار الواحد كما فشلت حكومة الخبير الاقتصادي (عبد الله حمدوك) في مجرد تخفيض الإنفاق الحكومي حيث أنفقت ملايين الدولارات على أنشطة صفرية العائد مثل السفر المتكرر للمسؤولين في حين يعاني المزارعون الأمرين في حصاد القمح هذه الأيام من حيث انعدام الوقود.

 

سياسياً تمارس الحكومة الانتقالية نفس السلوك الشمولي والإقصائي حيث عزلت قوى وطنية وتيارات سياسية وشبابية كبيرة بل فشلت في تهيئة المناخ السياسي لتمر الفترة الانتقالية بسلام فأسست لجنة تصفية سياسية سمتها (لجنة تفكيك التمكين) بقانون معيب حيث فصلت هذه اللجنة آلاف الموظفين تعسفياً كما أغلقت الصحف والقنوات وصادرت الممتلكات الخاصة الأمر المؤسف أن كل الوظائف التي أخلتها عينت فيها آخريين بدون مؤهلات ولا إجراءات تعيين متعارف عليها بل عن طريق المحاصصة الحزبية، أما أكبر إخفاقات الحكومة الانتقالية السياسية هو الوضع الدستوري الكارثي فالوثيقة الدستورية التي منحت لأول مرة في التاريخ الدستوري فصيل سياسي محدد حق التحكم المطلق في شأن البلاد الاجتماعي والثقافي بلا سلطة تشريعية رقابية وحتى إن حضرت السلطة الرقابية فإنها معيبة وكسيحة وصورية لأنها أعطت ذات الفصيل الحق في تعيين ثلثي السلطة التشريعية.

 

أما على صعيد العلاقات الخارجية فإن التخبط في ملفات مهمة وحساسة مثل ملف سد النهضة أبرز سمات الحكومة ومن المعلوم أن السودان هو جزء أصيل من أصحاب المصلحة في التفاوض لكن تحول في نهاية الأمر إلى وسيط بسبب الانقسام الذي تشهده الحكومة الانتقالية بين مؤيد لمصر ومؤيد لأثيوبيا والخاسر في النهاية هو الشعب السوداني والأجيال القادمة، في تقديري الخاص أن على الحكومة الانتقالية أن تترجل وتفسح المجال لحكومة تكنوخبراء حقيقيون توكل لهم مهمة إخراج البلاد من هذا النفق السياسي المظلم وأن يعودوا إلى مسار مهام الفترة الانتقالية التي تتلخص في إسعاف الوضع الاقتصادي المتردي وتنقية المناخ السياسي من خلال مصالحة وطنية شاملة لا تستثني أحد إلا من ثبت جرمه في محاكمة عادلة أمام القضاء ومن ثم الانتقال الديمقراطي عبر انتخابات حرة ونزيهة بعد مراجعة وتعديل جميع القوانيين المقيدة للحريات وقانون الانتخابات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.