شعار قسم مدونات

هل حقا أساءت منظمة الصحة العالمية إدارة جائحة كورونا؟

blogs كورونا

أثار قرار الرئيس الأمريكي العديد من ردود الفعل، بعد إعلانه عزمه عن وقف تمويل بلاده لمنظمة الصحة العالمية. أتى قراره بعد أسبوعين من تلويحه به، والذي تراجع عنه تحت ضغوطات الصحفيين حول توقيته وأسبابه، ليقول بعدها أنه لم يحسم قراره بعد، وأن تحقيقا في طور الانجاز لمعرفة مدى انحياز المنظمة للصين وإمكانية تسترها عليها وحجب معلومات هامة حول خطورة فيروس كورونا المستجد، ما كان ييسمح بانقاذ كثير من الأرواح. لكن ومع ارتفاع حاد وسريع لأعداد الوفيات والمصابين في الولايات المتحدة وتزايد الضغوط عليه حول سوء تدبيره للأزمة الصحية في البلاد، وأنه أساء تقدير حجم الأضرار المحتملة جراء انتشار الفيروس، لم يجد دونالد ترامب بدًّا من إعلانه وقفا مؤقتا لتمويل منظمة الصحة العالمية، دون انتظار لنتائج التحقيق.

وبمجرد إعلانه، أصبح الخبر موضوع مجموعة من التحاليل، ومادة صحفية دسمة، تناولتها المنابر الإعلامية على نطاق واسع، والسبب يرجع إلى كون الولايات المتحدة أكبر مساهم في منظمة الصحة العالمية بما يناهز 400 إلى 500 مليون دولار سنويا، أي بنسبة 10 إلى 15 بالمئة من ميزانية المنظمة. كما أصبح هذا القرار أيضا حجة إضافية للتعبيرعن السخط الشعبي إزاء المنظمة، ودليلا آخر يحتج به أصحاب "نظرية المؤامرة" لدعم أطروحاتهم. لكن دعونا لا ننساق وراء كل هذه الفرضيات التي تتخلها بعض مشاعر العاطفة، ولنحكم بموضوعية حول ما إذا كانت المنظمة فعلا قد قصرت في أداء مهمتها بتحذير العالم من الجائحة، وهل اتهامات ترامب لها بكونها تأخرت في الإعلان للعالم عن خطورة الفيروس في محلها؟

المنظمة لم تعلن عن حالة الطوارئ الصحية العالمية إلا في 30 من شهر يناير بعد أن وصل الفيروس في 19 دولة وتجاوز عدد الحالات المؤكدة 8 آلاف إصابة، ولم تعتبر الفيروس "جائحة" إلا في 11 مارس

اتهامات ترامب للمنظمة، التي أسست عام 1948 بهدف توفير أفضل ما يمكن من الحالة الصحية لجميع الشعوب، كما ينص على ذلك دستورها، لم تكن الأولى من نوعها، فقد سبق أن اتهمتها الولايات المتحدة منذ تأسيسها، بكونها منحازة إلى النظام السوفياتي آنذاك، كما وجهت إليها انتقادات لاذعة في مواجهتها لوباء فيروس إنفلونزا الخنازير سنة 2009 ووصفت ردة فعلها "بالمبالغ فيها". ولعل آخر هذه الإنتقادات، هي تلك التي تلت انتشار فيروس إيبولا في غرب إفريقيا عام 2014 وتم اعتبار ردة فعلها متأخرة جدا. فالوباء الذي بدأ في منطقة نائية في غينيا انتقل بسرعة عبر الحدود (الوهمية) إلى كل من سيراليون وليبيريا، وتأخرت ردة فعل المنظمة أكثر من ستة أشهر قبل أن تعلن خطورة الوضع. فشلها حينها أعاد النقاش حول تركيبتها وتنظيمها الداخلي، والذي يعقد تحليل المعلومات واتخاذ القرارات بفعالية، وطرحت فكرة تفكيكها وإنشاء منظمة جديدة. لكن مديرتها آنذاك، د. تشان مارغاريت، أشارت إلى أن تمويل المنظمة الضعيف هو السبب الرئيسي في ضعف أداءها. هذا الأخير كان أهم أسس برامج المترشحين لخلافتها. ومن بينهم المدير الجديد د. تيدروس أدهانوم غيبريسوس. فهل نجح في أول امتحان له حتى الآن؟!

يرد الرئيس الأمريكي على منتقديه، الذين يتهمونه بسوء إدارته لأزمة جائحة فيروس كورونا في بلاده، بكونه أول رئيس دولة يصدر قرارا بتعليق الرحلات بين الولايات المتحدة والصين، رغم الانتقادات التي وجهت له حينها، من خصومه السياسيين وكذا من المنظمة نفسها ومن الصين، بكونه بالغ في ردة فعله. ويقول أن القرار جاء في الوقت الذي نفت فيه المنظمة إمكانية وجود إنتقال للفيروس من إنسان إلى آخر. لكن، منظمة الصحة العالمية ترد على أن الأمر كان يتعلق بفيروس جديد ولا معلومات مؤكدة حول طبيعته وكيفية عمله وانتقاله إلى الإنسان، وأنها كانت دائما صريحة بشأن المعلومات حول الفيروس، وقراراتها كانت تتوافق والمعلومات التي تصلها من الصين.

تلقت المنظمة أول تنبيه بشأن مجموعة من الإصابات بالاتهاب الرئوي في 31 ديسمبر من العام الماضي، وحتى قبل التأكد من وجود انتقال للفيروس بين البشر، وضعت دليلا توجيهيا لجميع الدول الأعضاء في العاشر من شهر يناير، مشيرة فيه إلى "إمكانية" وجود انتقال للفيروس بين البشر وإلى كيفية الكشف عن الحالات في المختبرات وطرق الوقاية منه وبالخصوص في الوسط الطبي من خلال الأدوات الطبية المستعملة بالإضافة إلى لائحة من النصائح حول كيفية الإستعداد للتعامل مع مثل هذه الحالات وأي نظام يجب العمل عليه داخل الدول. وهذا الدليل تم نشره حتى قبل إعلان ترامب تقييد السفر من وإلى الصين.

ومقارنة مع ردة الفعل بعد انتشار فيروس إيبولا، فالمنظمة بدأت في عقد مؤتمرات صحفية يومية حول فيروس كوفيد 19 في 21 يناير، لما كانت هناك 282 حالة مؤكدة فقط في العالم. كما سارعت في شهر فبراير إلى إرسال معدات طبية وأدوات الكشف المخبري إلى أكثر من 93 دولة. كما عملت على جمع سجلات للمئات من التجارب السريرية وإنشاء "بروتوكول رئيسي" لمثل هذه التجارب ، لزيادة حجمها من خلال تجميع مجموعات المرضى حول العالم. في هذه الأثناء، كان الرئيس الأمريكي مشغولا بصراعات سياسية، متجاهلا، ليس فقط تقارير منظمة الصحة العالمية، بل وكذلك تقارير خبراء محليين ودوليين وكذا الأمريكيين العاملين في المنظمة، حيث أشارت صحيفة الواشنطن بوست إلى وجود 17 خبيرا أمريكيا في المنظمة من أجل التعاون معها، كان قد سبق لدونالد ترامب أن أعلن عن إرساله "أفضل العلماء للتعاون مع الصين ومنظمة الصحة العالمية" منهم 16 خبيرا من معهد مكافحة والوقاية من الأمراض.

هذه ليست مرافعة من أجل منظمة الصحة العالمية، ولا يعني أنها لم تقم بأخطاء في إدارتها لأزمة فيروس كورونا، فالواقع أن المنظمة لم تعلن عن حالة الطوارئ الصحية العالمية إلا في 30 من شهر يناير بعد أن وصل الفيروس في 19 دولة وتجاوز عدد الحالات المؤكدة 8 آلاف إصابة، ولم تعتبر الفيروس "جائحة" إلا في 11 مارس. لكن، المنظمة تقول أن تأخرها في ذلك كان من أجل ربح المزيد من الوقت، وخصوصا من الدول التي لم تسجل بعد أية حالة للفيروس، وللاستعداد الكافي لمواجهته، وأنها كانت دائما تحذر من أن احتمالية تسجيل الحالات بها واردة جدا.

undefined

أما بخصوص اتهامات ترامب بشأن التستر على الصين، فإن المنظمة تقول إن ليس لها السلطة لإرسال خبراء لها إلى أي دولة لإجراء تحقيقات حول انتشار فيروس أو حول الوضعية الصحية فيها، وأنها كانت تنشر تقاريرها بناء على المعلومات التي تصلها من الحكومة الصينية. وهذا ما يطرح عدة تساؤلات، حول نجاعة المنظمة، بحكم أن الصين معروفة بعدم صدقيتها، حيث كشف تقرير أمريكي أن الحكومة الصينية تسترت على انتشار الفيروس لمدة ستة أيام قبل أن تعلن حالة الحجر الصحي على مدينة ووهان. حيث استغلت الفترة ما بين الفاتح والسابع من شهر يناير للاستعداد لتطبيق قراراتها، ما أدى إلى انتشار كبير للفيروس واستحالة احتواءه بعد ذلك بعد تسربه إلى أنحاء أخرى في داخل وخارج البلاد.

هذا الأمر يتركنا مع خيارين فقط: أن تخطو كل الدول حذو دونالد ترامب، وتواجه كل دولة مصيرها، أو أن نقبل بضرورة وجود مؤسسات عالمية لتنسيق الجهود الدولية لمواجهة عدو مشترك في هذا العالم المترابط في زمن العولمة. والواقع أن هناك خيارا واحدا فقط في هذه الوضعية الراهنة، وهو الحاجة إلى استجابة جماعية، والتي بدونها سيعاني العالم لشهور وربما سنين أخرى سواء في مواجهة هذه الجائحة أو أوبئة أخرى. ففيروس كورونا… لن يكون الأخير.

قرار ترامب إذن، ما هو إلا محاولة لحجب الشمس بالغربال كما يقول المثل المأثور، ومناورة جديدة لإلقاء اللوم على جهة جديدة وتضليل الرأي العام الأمريكي عن مدى سوء إدارته للأزمة، والتي كلفت الولايات المتحدة غاليا، سواء من حيث الخسائر الإقتصادية أو من حيث الأرواح. فعوض قطع التمويل عنها، فالمنظمة تحتاج إلى مزيد من السلطة والمال، ليس فقط لمواجهة فيروس كورونا المستجد، لكن في مواجهة أمراض أخرى وخصوصا في الدول النامية والفقيرة، التي لا تزال تعاني من الولوج إلى أبسط اللقاحات لأمراض أصبحت طي النسيان في بلدان أخرى.

منظمة الصحة العالمية تحتاج إلى مزيد من التمويل من أجل القيام بتحقيقات مستقلة وشفافة في شأن الأوبئة المستجدة للرفع من نجاعة الإستجابة لها وتقديم الدعم للدول ومنع إنتشارها إلى مزيد من بقاع العالم. وتحتاج إلى تمويل برامجها الحالية في مواجهة الأمراض المعدية كالسل وشلل الأطفال والسيدا، وكذا في تنسيق الجهود الدولية لتطوير لقاحات وعلاجات جديدة للأمراض المستجدة، بحيث يكون، كما وصفه بيل غيتس، مؤسس التحالف العالمي للقاحات والتحصين، "منتوجا عالميا عاما" متاحا للجميع بدون استثناء. معظم هذه الاختصاصات موجودة على الورق، وما تحتاجه هو التمويل الكافي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.