شعار قسم مدونات

الاقتصاد العالمي ومآلات الأزمة الراهنة

blogs بورصة

لا يزال فيروس كورونا يعيث في الاقتصاد العالمي دمارا حتى أصابه الشلل، فقد عرقل الإنتاج والإمداد والنقل الجوي عبر العالم، وأضعف الطلب العالمي، وعزل دولا ووضعها تحت الحجر الصحي وأخرى تحت حظر التجول، وأصاب قطاعات المال والطيران والنقل والسياحة بخسائر فادحة. وكان تأثير الفيروس كبيرا على الاقتصاديات العالمية والمحلية على حد سواء، فعلى سبيل المثال أثر على الاقتصاد العالمي في قطاع التجارة والخدمات حيث أدت الجائحة إلى إعاقة الإنتاج وعرقلة الإمداد وإضعاف الطلب العالمي ومنه الطلب على الطاقة، كما أثر على الأسواق المالية التي شهدت انهيارات وأسوأ أداء منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008.

وبهذا أعطت أسواق المال مؤشرا سلبيا على شعور المستثمرين بتوجهات تأثير الفيروس على الاقتصاد العالمي، إضافة لذلك ضربت الجائحة الترابط العالمي من خلال قطاع السياحة والنقل، إذ خفضت معدل الرحلات وأغلقت أغلب المطارات حول العالم، وأثر فيروس كورونا أيضا على الاقتصاديات المحلية في إعاقة النشاط الاقتصادي وذلك عبر إعاقة الإنتاج والخدمات والمواصلات والنقل والسياحة والتسوق، وإضعاف العرض والطلب نتيجة تحول بعض المدن إلى مدن أشباح كما شهدنا في الصين وأوروبا وبعض الولايات الأمريكية، إضافة إلى تكاليف التصدي والاحتواء التي فرضتها الحكومات والدول من إنقاذ ودعم وإجراءات احترازية لقطاع الصحة والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية بتكاليف باهظة وآخذة في الارتفاع وما رافق ذلك من حالة الارتباك وعدم اليقين التي فرضها الفايروس وحالة الإحجام التي ولدها تباعا في مجالات الاستثمار والإنفاق والسياحة.

التبعات الاقتصادية للفيروس على العملاقة الاقتصاديين

أولاً: الاقتصاد الأمريكي
الصين هي أكبر مستورد للنفط في العالم، والصدمة التي سببها فيروس كورونا للاقتصاد الصيني أضعف الطلب العالمي على النفط الذي تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن ينخفض إلى أدنى مستويات قياسية

تُعتبر أمريكا التي تشكل 25 بالمئة من الاقتصاد العالمي بناتج محلي إجمالي بلغ عام 2018 (20.4) ترليون دولار أمريكي الأكثر ضرراً، فحتى لحظة إعداد التقرير بلغ عدد المصابين حوالي مليون إصابة والوفيات تخطت الـ 55 ألفا، الأمر الذي سبب إرباكا للإدارة الأمريكية، وقد أشارت دراسة أن التكلفة المتوقعة للمال المهدر في أمريكا يمكن أن تصل إلى 1.7 تريليون دولار عام 2020 بسبب تفشي فيروس كورونا، والمال المُهدر هنا يعود إلى الإجراءات الاحترازية الناجمة عن تفشي فايروس كورونا؛ مثل تعليق الدروس، وإلغاء تنظيم الكثير من الفعاليات، والتباعد الاجتماعي، وتأثير ذلك بشكل كبير على مجموعة كاملة من الصناعات في الولايات المتحدة. وعندما تولى أوباما منصبه بلغت الديون عشرة تريليونات دولار، ووصلت إلى عشرين تريليون دولار عندما وصل دونالد ترامب إلى الرئاسة، بينما تبلغ نسبة الدين العام في الوقت الراهن 23 تريليون دولار، لتشكل بذلك نسبة 107 بالمئة إلى الناتج المحلي الإجمالي. ولا زالت هذه العاصفة العارمة تقض مضاجع الاقتصاد الأميركي وتدخله في حالة من الركود، وكما هو مرجح بشكل متزايد، فإن الإنفاق على الديون وعجز الميزانية يمكن أن يرتفعا إلى مستويات لا يمكن تحمّلها كما يمكن ان يسبب تقاعس المسؤولين الأمريكيين في مواجهة تراكم الديون إلى اندلاع الأزمات لأنفسهم.

ثانياً: الاقتصاد الصيني

تشكل الصين 17 بالمئة من الاقتصاد العالمي بناتج محلي إجمالي بلغ 14.1 ترليون دولار أمريكي في 2018 وعلى الرغم من أنها مهد تفشي الوباء وتحديدا في ووهان الصينية التي أضرت بالاقتصاد الصيني ومنه إلى الاقتصاد العالمي إلا أنها استطاعت كبح جماح الجائحة نسبيا وهي أكبر مصدر للبضائع حول العالم، وتعتبر مصنع العالم، إذ تمده بثلث احتياجاته من المنتجات الصناعية (33 بالمئة)، وهي أكبر مستورد للنفط في العالم، وتشكل مصدرا كبير للطلب على السياحة العالمية. لذلك عندما يصاب الاقتصاد الصيني بالشلل فلا بد أن يتأثر العالم، وبقاء العمال في بيوتهم وإغلاق المصانع أديا إلى هبوط المؤشر الصناعي لأدنى مستوى في تاريخه لقد كان قطاع الصناعة الصيني الأكثر تضررا إذ انخفض نشاطه لأرقام قياسية، وهذا سيؤدي إلى عرقلة الإمداد من الصين للعالم، سواء بمنتجات نهائية أو وسيطة داخلة في إنتاج منتجات أخرى حول العالم. ولو طال أمد هذه الأزمة فسيسهم ذلك في ارتفاع تكاليف الإمداد والإنتاج العالمي، وسيسهم بالتالي في تباطؤ الاقتصاد العالمي.

ثالثا: الاقتصاديات النفطية

الصين هي أكبر مستورد للنفط في العالم، والصدمة التي سببها فيروس كورونا للاقتصاد الصيني أضعف الطلب العالمي على النفط الذي تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن ينخفض إلى أدنى مستويات قياسية، وانخفض النفط في خضم هذه الأزمة إلى مستويات قياسية حيث وصل الخام الامريكي إلى دون الصفر (-37 دولار) في أسوأ أداء تاريخي وهو ما يعني أن بائع العقد مستعد لدفع 37 دولار للمشتري لكي يقبل على شراء العقد، كما انخفض برنت إلى 21 دولار أمريكي لعدة أسباب أبرزها: تخمة العرض ونقص الطلب نتيجة تراجع الطلب على المحروقات وتراجع عجلة الانتاج العالمي وتوقف الصناعات والاقتصاديات الكبرى نتيجة الجائحة.

وتخلي السماسرة عن عقود النفط الآجلة لأنها ذات كلف تخزينية عالية حيث هناك رسوم احتفاظ دفعتهم لبيع ما لديهم للتخلص من أعباء وكلف الاحتفاظ، إضافة لتخزين كثير من الدول للنفط، إذ زادت القدرة التخزينية للدول من 55 بالمئة في منتصف مارس إلى 70 بالمئة في منتصف أبريل ويتوقع خبراء أن تزداد مخزونات النفط إلى 85 بالمئة في الأسابيع القادمة مما يزيد الضغط على النفط، وحسب منظمة أوبك فان القدرة التخزينية ارتفعت من 80 مليون برميل في يناير 2020 إلى 120 مليون برميل في إبريل 2020. وتبلغ طاقة التكرير العالمية اليومية 99.8 مليون برميل يوميا، وتوقفت الدول عن انتاج 14 مليون برميل حتى 3 أبريل 2020 منها 8 ملايين برميل كانقطاع مباشر بسبب جائحة كرونا ومن المتوقع ان ينخفض التكرير اليومي إلى 16 مليون برميل في أبريل ومايو. كما أن الحرب الاقتصادية بين دول أوبك على حصص الانتاج وعدم اتفاقها على حدود سعرية كلها عوامل دفعت إلى تهاوي الاسعار.

الإنقاذ والدعم

دفع فيروس كورونا العديد من الحكومات حول العالم إلى التدخل ببرامج إنقاذ ودعم ضخمة للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية المتضررة لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، ودعم النمو لتحاشي الدخول في انكماش اقتصادي عميق، قدمت الحكومات والدول خطط وبرامج دعم وتحفيز نقدي ومالي لدعم القطاع المالي واللوجستي والإمداد والنقل ولمواجهة ارتفاع معدلات البطالة والتضخم في مناطق مختلفة من العالم، كالاتحاد الأوروبي وبريطانيا والشرق الأوسط وفِي الولايات المتحدة، أقرت خطة دعم اقتصادي واجتماعي بتريليوني دولار، حيث بلغت طلبات العاطلين عن العمل مستويات تاريخية.

أسواق المال وجائحة كورونا

واصلت أسواق المال العالمية والإقليمية انخفاضاتها، بتراجعات هي الأسوأ منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، ففي دول مجلس التعاون كان التراجع في أسواق المال هو الأسوأ منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية بما يزيد على 24 بالمئة، ويوصف المشهد بالارتباك والانهيارات المدفوعة بقلق من الدخول في انكماش اقتصادي عميق، إذ فقدت البورصة الأميركية ما يزيد على 11 تريليون دولار من قيمتها السوقية منذ تفشي كورونا.

الشركات قنابل موقوتة

تتوقع منظمة العمل الدولية فقدان 25 مليون شخص في العالم لوظائفهم وتقدر خسائر الشركات المتوقعة إلى الآن (5-10 بالمئة) ويتوقع ان تتضاعف الأرقام إذا ما استمرت الازمة. وحيث أصبحت أوروبا بؤرة للمرض ومركزا لانتشاره فهناك احتمالية لتعثر كثير من الشركات في ظل توقف كل القطاعات تقريبا، وتقدر حجم ديون الشركات مبلغ 65 ترليون دولار أمريكي تمثل بدورها قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في اي لحظة. إن تعثر هذه الشركات قد يؤدي إلى انهيار أنظمة مصرفية ومؤسسات مالية كثيرة وبالتالي ستشكل في مجموعها كرة ثلج متدحرجة ستأخذ كل شيء أمامها، ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فقد سُجلت كثير من الخسائر على صعيد الاقتصاديات الكلية والجزئية، ومثال ذلك توقف الانتاج والمصانع، انخفاض المداخيل، زيادة أعداد البطالة خاصة للمهن الحرة والغير ثابتة …الخ ).

ملخص

لا يمكن إطلاق أزمة عالمية جديدة الآن على وضع الاقتصاد العالمي، لكن مانشهده فعلياً تراجع إن لم يكن انكماشا حادا، والتوقعات الأولية تشير إلى انخفاض النمو بحدود 1 بالمئة إلى 1.5 بالمئة هذا العام، وقد يصل إلى أدنى مستوى له منذ الأزمة المالية العالمية بحسب منظمة التعاون الدولية وإذا استمرت الأزمة وعدم توفر اللقاح المضاد، قد يشهد العالم أسوأ أزمة اقتصادية منذ الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، وستعتمد هذه الاحتمالات على مدى الانتشار الزماني والمكاني للفيروس، وعمق الأزمة التي سيتسبب فيها، ومتى تضع الحرب معه أوزارها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.