شعار قسم مدونات

الأمة السودانية في خطر.. ثورة ديسمبر وإصلاح التعليم

blogs السودان

من منبر وكالة السودان للأنباء (سونا)، خاطب الدكتور عمر القراي -مدير المركز القومي للمناهج والبحث التربوي- في 18 أبريل الجاري، الرأي العام السوداني بغرض توضيح رؤيته لإصلاح مناهج التعليم. وقد أحدث خطابه هذا موجة جديدة من تباين الآراء حول "توجهاته الإصلاحية" التي بشر بها. وهي موجة لا يكاد المرء يتبين فيها وجهة نظر موضوعية، وإن كانت -في المقابل- تعكس واقعاً مؤسفاً، ومؤلماً، لا ينفصل عن المشهد العام. بل، ولا عن تعقيدات التحول السياسي المتعثر نحو ديمقراطية لم تتشبع بها بعدُ تربة هذا البلد.

 

ومن المستغرب أن تشرع وزارة التربية والتعليم، بإصرارٍ جهور، في تبني اتجاه فلسفي في الإصلاح، لا يكتفي بالتحسينات الفنية البسيطة، في مثل هذا الظرف السياسي المضطرب. وهو ظرف كان يتوقع أن يشجع الجهات التي بيدها اتخاذ القرار التربوي، في الحكومة الانتقالية التي أفضت إليها ثورة ديسمبر، إلى المسارعة إلى إعلان تأجيل التفكير في إصلاح مناهج التعليم إلى أن تكتمل منظومة الحكم الانتقالي، وتتحدد الفلسفة التربوية التي يجد فيها كل السودانيين مستقبل أبنائهم في مؤتمر تربوي جامع، فتُصاغ القوانين المنظمة للتعليم وتُراجع عبر مشورة موسعة، تقرها الدولة في مؤسساتها التشريعية-لا خارجها. ما يبرر هذا التوقع هو أن نوع القضايا التربوية التي تنتظر الحكومة الانتقالية ليس من جنس القضايا التي يحسم فيها المكتب التنفيذي لوزير التربية والتعليم، لوحده أو بالاستعانة الشكلية بلجانٍ ينتظم عملها على عجل؛ فقضايا التعليم شائكة، وهي لا تنفصل -بحالٍ- عن القضايا التي أقعدت هذا البلد، وأضرت باستقراره.

 

يُعالج هذا المقال -وتعقبه سلسة حلقات تنشر تباعاً- جانباً من أبعاد المسألة التعليمية السودانية بوصفها قضية وطنية كبرى لا تنفصل عن تعقيدات المسار الوطني المأمول، ولا عن فلسفة العقد الاجتماعي المنشود. فقد قُدر للسودان، قبل أن تستقر دولته على حدود استقلالها الموحد في الأول من يناير عام 1956م، أن يشهد مسارين تعليميين، أسهما بدرجات متفاوتة في تشكيل الوعي الثقافي العام للنخبة السودانية. ظل المسار الأول يشدها إلى تصورٍ في صناعة التعليم يُعنى بهويتها الدينية وقيمها المجتمعية، ويحثها المسار الآخر إلى الارتباط بالعصر ومواكبته والمساهمة فيه. وعوض أن توفر هذه الميزة الثقافية فرصة للتجديد الثقافي، والانفتاح المتبصر بهدف إنضاج المسار التربوي، انتهت تجارب السودانيين إلى ازدواجية تعليم، وأحادية في بعض الأحيان، تشتد وتضعف لعوامل لا علاقة لها -بالضرورة- بالفكر التربوي، بل بالسياسة وثقافة النخب. وهي نتيجة طبيعة للعجز عن تجاوز المقابلة المعهودة بين تعليم ديني موروث، كان يديره المجتمع، وتعليم عصري وافد، ظل يحافظ على علاقته بالدولة وهمومها وتطلعاتها. وتلك أزمة عامة، لا تخص السودان وحده، بل لها مثيل في عديد من دول المنطقة والإقليم.

   

  

تتصل تلك الأزمة -من ناحية أخرى- ببدايات بعيدة، لا علاقة لها -مباشرة- بهموم ثورة ديسمبر وروح شبابها المتطلع إلى مستقبل يصله بالعصر؛ فتطلعاتهم لا يحققها غير التواصل مع العالم، وذلك لا يكون -قطعاً- إلا بامتلاك العلم الحديث والتكنولوجيا؛ لا ينكر ذلك إلا قصير النظر. هذه النتيجة -في المقابل- يجب ألا تمنعنا عن وصل هموم ثورة ديسمبر بالبدايات التي شكلت الملامح الجينية للخبرة السودانية في التعليم الحديث، بحثاً عن ملاح الفكر التربوي السوداني واستبصاراً بتجارب التعليم القريب منها والبعيد. إذ لا شك أن في مراجعة دفاتر التاريخ ما يفيد التربويين والسياسيين على حدٍ سواء؛ فالتواصل مع العالم ضارباً في تاريخ السودان، وثمة تجارب في علاقة التعليم بنظم السياسة والحكم المتعاقبة، ومحاولات أخرى في امتلاك العلم وتوطن التكنولوجيا في "البيئة السودانية" يمكن التعلُمَ منها. لكلِ هذا، رأيت أن أُحرض التربويين والمهتمين بمستقبل التعليم في السودان لمراجعة دفاتر الأرشيف التربوي السوداني، وإعادة قراءة مذكرات من أسهموا بنصيب وافر في مسيرة التعليم، ومراجعة الوثائق التربوية والتجارب التعليمية السابقة. أفعل ذلك وأدرك تمام الإدراك أن وصل تلك المراجعات بالقضايا التي تَجَدّدَ النقاشُ حولها مؤخراً، وكادت أن تشغل الرأي العام في سياقِ مشهدٍ سياسيٍ متوتراً، وفي أجواءٍ من الاستقطاب الحاد، لا يكفي فيها جهود الآحاد من الباحثين. لكن لعلها تثمر في تحريك النقاش الموضوعي حول القضايا التربوية الراهنة، بحيث تتكامل الجهود وتتوحد في منصة تربوية بإرادة وطنية حقيقية.

 

نعلمُ أن نشأة التعليم الحديث تعود إلى الحكم التركي، الذي بدأ بغزو محمد علي باشا في 1820، وقتها فُتحت العديد من المدارس الحديثة بغرض تعليم أبناء الأتراك والمصرين العاملين في الجيش والإدارة، وبغرض تخريج عدد قليل من السودانيين للعمل في دواوين الحكومة في الوظائف الصغرى التي لا يتوفر من يقوم بها من المصريين والأتراك (محمد عمر بشير، التعليم في السودان في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين)، ثم توسع هذا النوع من التعليم في عهد الاستعمار (1899-1956م). لسنا هنا -بطبيعة الحال- بصدد التحقيب التاريخي لتلك المسيرة التعليمية، فقط سقنا ذلك لتحديد موقع العام 1934م في الخبرة السودانية في التعليم، لما له من أهمية في التحول الذي حدث بعده.

 

ولعلي استشهد على هذا التمييز بما قدمه الشيخ بابكر بدري (1277 – 1374هـ / 19861 – 1954م)، طيب الله ثراه، من عملٍ دؤوبٍ في التجديد الثقافي منذ العام 1903م. إذ لا خلاف -بين السودانيين- على أن الشيخ بابكر بدري هو أحد أبرز أعلام التعليم، بل وفي غيره من ميادين العمل الوطني. وصفه سلاطين باشا (في 1908) بأنه صاحب أفكار تقدمية في التعليم، وشدد ستيورت سايم -سكرتير الحاكم الإنجليزي العام- في التأكيد على أنه "كان مسلماً متديناً ووطنياً راسخ القدم، شجاعاً نزيهاً تام النزاهة، وخادماً لوطنه مخلصاً". ولم يمنع التدين الشيخ بابكر بدري من الإلحاح في طلب التعليم الحديث وتوطينه في بلده، للرجال كما للنساء؛ فهو بشهادة سكرتير الحاكم الإنجليزي العام -نفسه- "كان مثالاً لامعاً لأولئك الأفراد من السودانيين الذين أدركوا منذ البداية جانب الخير في أهداف السياسة البريطانية في السودان، فساهموا كلٌ في حقل نشاطه لتحقيق هذه الأهداف". ومن يقرأ "تاريخ حياتي"، وهو سفر عظيم النفع، صنفه في ثلاثة أجزاء (أنصح الشباب بقراءته بتمعن)، يدرك أنه توثيق أمين لسيرة رجل فريد عرف أهمية التجديد الثقافي، وأخلصَ في غرس بذرته بهمةٍ عالية.

 

لا يغامر الكاتب بالحكم أو الزعم أن ذلك النوع من التجديد الثقافي قد وئد قبل أن ينضج، لكن ثمة شواهد عديدة -في المقابل- تعزز القول بأن الشيخ بابكر بدري لم يسعَ لتعليمٍ يفصل الناشئة عن قيم مجتمعهم، بل كان وفياً لتعليمهم "الخير" الذي أبصره في النظام الحديث. وأكتفي هنا بالإشارة إلى رأيه في تعليم المرأة، فقد برر حثه للناس على تعليم البنات تعليماً حديثاً بأمله في أن "تتمكن البنت من إدارة بيتها إدارة تغري المتعلمين من بني جنسها بزواجها حتى لا يتسرب المتعلمون لزواج الأجنبيات، فتنعكس نتيجة أتعابنا في تعليم أبنائنا فينكر الناس علَيّ الدعوة للتعليم، مما يدعو غيري إلى اليأس". وأثناء زيارته للقاهرة في 1943م سأله منصور باشا فهمي إن كان قد انتقد مصر في شيء فكان جوابه أنه انتقدها في أمرين، ذكر من بينهما السفور. (تاريخ حياتي، ج2، ص60 – ج3، ص62).

   undefined

   

إذا اتضح ذلك، فإن الأرجح أن ما وقع -بعد تأسيس معهد بخت الرضا في 1934م- مثل بداية التحول التدريجي في مسيرة التعليم في السودان. إذ يبدو أن جيل معهد بخت الرضا شُغل عن تطوير الفكر التربوي السوداني بقضايا إعداد المعلمين وتطوير المنهج المدرسي على أسسٍ جديدةٍ تماماً، في أبعادها الفلسفية. سمحت لهم تلك الفلسفة بمرونة مقدرة عند التطبيق، مراعاةً لخصوصيات البيئة والجغرافية، أثناء عملية تأليف الكتاب المدرسي وصياغة مفرداته وعند تخطيط الأنشطة التعليمية. فقد أرست تجربة بخت الرضا تقاليد حسنة في صناعة التعليم المدرسي، لولا أنها اغفلت -في المقابل-إنضاج التجديد الثقافي المعمق بفكر تربوي سوداني متجدد، على الرغم من أهمية ابتكار أفكار تربوية سودانية للتعبير عن قيم العقد الاجتماعي الذي يتطلبه استقرار هذا البلد.

 

لقد نجح السودانيون في الانفتاح على الفكر التربوي العالمي، لكنهم لم يطورا فكراً تربوياً سودانياً يعالج قضايا التنوع الثقافي وإشكالات التنمية والوحدة الوطنية؛ وهي القضايا الكبرى التي لازمت فشل النخبة السودانية منذ استقلاله وإلى اليوم. ولهذا، تجدني أتفق مع الدكتور عبد الله علي إبراهيم في مقالاته التي انتقد فيها تجربة بخت الرضا من منظور علم الثقافة. وأتفق معه، كذلك، في أن العجز عن بلورة فكر تربوي سوداني في صناعة التعليم وبناء المناهج، أي العجز عن تطوير أدبيات وتجارب مشخصة تعبر عن نضج الخبرة التربوية السودانية بعيداً عن هيمنة الأيديولوجيات السائدة وطغيان ممارساتها، هو الذي ظل يغري "الثورات المباغتة" لتختطف التربية السودانية تحت مزاعم إصلاح التعليم. وثمة سببين صَعبا بلورة تلك الأفكار التربوية التي تحتاجها البلاد، هما في رأي د. عبد الله -وهو رأي سديد-أولاً: خيبة الحركة الوطنية ودولتها التي ألجأت الصفوة، من فرط قلة الحيلة، لترى في عهد الاستعمار عصراً ذهبياً نبيلاً. وثانياً: أخطاء الحركة الإسلامية التي توهمت أن العودة للأصول هينة، يكفيها في ذلك أن تجيز دستوراً إسلامياً، يَرُدَّ الناس إلى الجادة من تراثهم". (عبد الله علي إبراهيم: بخت الرضا – الاستعمار والتعليم، ص23 وص41).

 

لا شك أن العلاقة بين التعليم والسياسة علاقة لا فكاك عنها، وهي قضية لا تتسع لها مساحة هذا المقال؛ يكفي التأكيد على أن عدم الاستقرار السياسي، بكل ما يعنيه من سيادة دولة القانون والسلم المجتمعي والأمن القومي والتعافي الاقتصادي ومباشرة الإنتاج، هو الذي يفوت فرص إنضاج الخبرة التربوية على أبناء الوطن الواحد. وما لم يتحقق الاستقرار، فإن الحديث عن امتلاك المعرفة وتطوير التعليم، الذي يُمكن المجتمع من استثمار طاقاته كلها في البناء والعمران والحضارة، هو نوع من خلط الأولويات وإرباك الجهود. إلى هنا، أختم بما يؤكد هذا المعنى الأخير، ففي تعريفه بمقدمة ابن خلدون في ترجمتها الإنجليزية الصادرة عن جامعة برنستون 2015، سجل بروس ب. لورانس Bruce B. Lawrence ملاحظة ذكية، تعليقاً على تأخير ابن خلدون ذكر العلوم إلى الفصل الأخير من مقدمته الشهيرة. علق لورانس على ذلك بقوله: "ليس لأنها ]أي العلوم[ غير مهمة أو ثانوية عند النخبة المسلمة ]التي يمثلها ابن خلدون[ ولكن لأن العلوم لم تكن تمثل جزءً مكوناً للحياة البدوية". إنها –في تقديري-خلاصة مهمة، على النخبة السودانية أن تقف عند دلالاتها وتتأملها ملياً؛ فالاستقرار شرط الريادة في التعليم، بل شرط إنضاج الخبرة التربوية ذاتها، لأن كلاهما يتطلبان تفكيراً بخيالٍ واسع "لا يقتدر عليه المنشغلون بالمحافظة على ضروريات الحياة، العاجزون عما فوقها"، بعبارة ابن خلدون نفسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.