شعار قسم مدونات

عن قصة المعطف للكاتب الروسي نيكولاي غوغول

blogs المعطف

كان بالإمكان أن أقرأ هذه القصة منذ خمس سنوات، بعد أن اقترحها عليّ أحد الأصدقاء، لكنني لم أُعرها الاهتمام الذي تستحق آنذاك، وبعد أن أخذني الفضول إليها قررت مطالعتها على أمل اكتشاف السر الذي وجده فيها صديقي، والحق أنني وجدتها تستحق الاهتمام، لأنها تشكل إحدى اللبنات الأساسية للأدب الروسي، كما أنها تضع القارئ أمام كاتب روسي من القرن التاسع عشر، كما أنها تُصور لنا الظروف التي يعيش عليها المجتمع الروسي آنذاك، ثم إنها فرصة لاستطلاع الطريقة التي تتم به صياغة الأدب الروسي في مراحله المبكرة، لقد صار معطف غوغول يُضرب به المثل، وداع معه صيت غوغول عبر أرجاء العالم، هذا الكاتب الروسي الذي ولد سنة 1809 وتوفي سنة 1852، ترك إرثا أدبيا يستحق المطالعة، رغم أن بداياته لم تسر على الشكل الذي كان يشتهي سواء على المستوى المادي أو الأدبي، لكن سرعان ما تغيرت الأمور، فصار مطلوبا لدى القراء منذ ذلك الحين وإلى الآن، وإذا كانت نهايته حانت قبل أوانها، فرغم ذلك، استطاع أن يكون واحدا ممن أخرجوا الأدب الروسي إلى الوجود.

 

كلنا خرجنا من معطف غوغول، هكذا اعترف ديستويفسكي وهو يتحدث عن غوغول، ولعل هذا الاعتراف يؤكد قيمة غوغول، ويبدو أن اختيار المعطف كعنوان للقصة ذات حمولة رمزية، ومهما كانت الأسباب الذي دفعت غوغول إلى هذا الاختيار، إلا أنه يبقى مناسبا لمضمون القصة، فمنه تنطلق الأحداث لتعود إليه بشكل واقعي وبشكل مثير للسخرية، وهي الطريقة التي يعتمدها الكُتّاب في القرن التاسع عشر للتعبير عن واقعهم، من هنا جاء هذا المعطف، ومن خلاله ناقش غوغول عدة مواضيع تهم الواقع الاجتماعي للروسيين، وإذا كان موت البطل لم يؤثر على أحداث القصة، فلأن القارئ سيكتشف في النهاية أن المعطف هو البطل وليس أكاكي أكاكفيتش.

 

يعالج غوغول عدة قضايا اجتماعية في قصته هاته، ولعل أبرزها حياة الفقر التي تجعل ممن يحياها معرضا للسخرية، ومثيرا للشفقة، وما يكتنف هذه الحياة من عدة صراعات من أجل الاستمرار في الحياة

تحكي القصة عن أكاكي أكاكفيتش، وهو خطاط بسيط في إحدى الإدارات، ويحب عمله كثيرا ولهذا تجده يعمل بشغف وكتب غوغول في حقه يقول: "ففي ذلك النسخ كان يلمح عالمه المتنوع واللطيف"، وكان يتعرض للسخرية والاستهزاء بسبب شكله وثيابه، وفي نفس الوقت ظل مثيرا للشفقة، ويرتدي هذا الخطاط معطفا باليا، لم يعد صالحا نظرا لكثرة الإصلاحات عليه، مما دفع صاحبه إلى محاولة إصلاحه مجددا، لأنه لا يقدر على شراء معطف جديد، لكن الخياط الذي اعتاد أن يلجأ إليه حطم من آماله، واقترح عليه خياطة معطف جديد، وتزامن ذلك مع حصول الخطاط على مكافأة ساعدته بالإضافة إلى التقشف الذي استعان به ليكمل ثمن هذا المعطف، وتم ذلك كما ينبغي، حتى جاء يوم ارتداء هذا المعطف، وتلقى مقابله مجموعة من التهاني من طرف زملائه في العمل، واقترحوا عليه الاحتفال به، لكن خجله وعدم قدرته على مصاريف الحفل دفعاه للسكوت، مما جعل أحد زملائه يقرر الاحتفال بدلا منه، لكن ليس بالمعطف، ولكن بعيد ميلاده، وكان أكاكي من بين المدعوين.

 

بينما كان أكاكي عائدا من الحفل، تعرض للسرقة، حيث تمت سرقة معطفه، مما دفعه إلى البحث عن طريقة لاسترجاع هذا المعطف، حيث لجأ إلى الشرطة، لكن دون جدوى، فاقترح عليه أحد زملائه أن يبحث عن وسيط يتوسط له لدى الشرطة من أجل استرجاع المعطف، وبعد أن وجد وسيطا من الشخصيات المرموقة، لم يلقى الجواب الذي كان يشتهي، مما أثّر على نفسيته بشكل كبير، ومات، وبعد موته، ظل شبحه يحاصر المدينة ويسرق المعاطف، أما الوسيط فحصل أن أنّبه ضميره، لكن بعد فوات الأوان، فقد عرف أن صاحب المعطف مات، مما زاد من حدة التأنيب لديه، وبدوره وقف عليه الشبح وسرق منه المعطف، وهكذا انتهت القصة.

 

قال غوغول بخصوص بطل قصته: "وهكذا زال واختفى إلى الأبد إنسان لم يفكر أحد من الخلق في حمايته، ولم يكن عزيزا على أحد، ولم يكن أحد يهتم بأمره لا من قريب ولا من بعيد، ولا حتى عالم التاريخ الطبيعي الذي لم يكن ليقاوم غرز دبوس في جناح ذبابة منزلية وفحصها تحت مجهره، إنسان تحمل هزء وسخرية زملائه من غير أن يتذمر ويعبر عن احتجاجه، إنسان ذهب إلى مرقده الأخير بلا أدنى ضجة". ولعل هذا واقع يعيش عليه كثيرون، وكثيرون يمرون عبر رحلة الحياة دون أن يعيشوا كما ينبغي، ودون أن يشعر بهم أحد، ودون أن يحترمهم أحد، لقد كان أكاكي أكاكيفيتش نموذجا لهذه التجربة المثيرة للشفقة، ورغم ذلك استطاع أن يقتنع ببساطة حياته ويكتفي بأقل ما تهابه الحياة، لكن ما حصل له بعد أن حاول البحث عن حقه، أدى به إلى المرض وإلى الموت.

 

يعالج غوغول عدة قضايا اجتماعية في قصته هاته، ولعل أبرزها حياة الفقر التي تجعل ممن يحياها معرضا للسخرية، ومثيرا للشفقة، وما يكتنف هذه الحياة من عدة صراعات من أجل الاستمرار في الحياة، وما تتطلبه من قوة لتحمل قساوة الاخرين واستهزائهم وقمعهم، بالإضافة إلى الضرورات المادية للحياة، مع الحرمان من عدة حقوق، وأحيانا مطالبتك بحقك يعرضك للقمع، ثم إن حصولك على حقك يتطلب أن يكون لك وسيط تستند إليه، وفي غياب ذلك، ستظل حقوقك مهضومة، وستكتفي بالانسحاب من عالم لا تقدر على تحمل تبعاته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.