شعار قسم مدونات

إيطاليا.. بين يُمن الهوى ونكبة الجَوى

blogs إيطاليا

إن سألت عن السعادة، فهي جولة خفيفة بـ"مدينة الدنيا"، بين شوارع روما العهيدة، أزقتها العريقة وكنائسها العتيقة، صورة وسط رونق ساحة المعجزات، إلى جانب إحدى عجائب الدنيا السبع "برج بيزا المائل" الرخامي الصخري، الموثّق لفن المعمار الرومانسكي، يميل كل الميل بسُموق ويأبى السّفول، هي ربما فوح بيتزا بجبن الموتزاريلا من إحدى مطاعم نابولي الأنيقة، طيْب معكرونة أو أرَج "لازانيا" بالصلصة الإيطالية وبعض الزعتر.

 

إن بحثت بين مرادفات الابتهاج في قواميس التجوال، قد تجده وقفة تأمل على أحد الجسور الرابطة بين جزر البندقية "المدينة العائمة"، لحظة خُلوة أمام مياهها الأخّاذة، لتِبيان كل سر عُهد إضماره، رحلة استجلاء بجزيرة مورينو، صانعة أفخر أنواع الزجاج على مر الأزمنة، بلا منازع، تربط "فينيزيا" بين جزرها متباينة البهاء والمَلاحة، كما تربط إيطاليا الهالك البائد، بالحاضر الوافد، هو ربما طلة خفيفة على معمار الكولوسيوم الشاهد على القرن الميلادي الأول، دائم المجد عريق النسب.

 

فالغبطة أمارة خلّفتها ريشة ليوناردو دافينتشي على لوح خشبي، لوحة بوح خالدة لدوناتيلو أو تمثال نحت روماني برونزي قديم، أطرى فيه داوود أو شخصية أخرى، هي إحدى روائع ساندرو بوتشيلي، قراءة بين سطور كتابات خطّتها أنامل ألبرتو مورافيا، أو ربما مباراة تحفة من أرشيف المنتخب الإيطالي الشاهد على النصر.

   undefined

   

نصر لم يكن اليوم حليف إيطاليا، في حربها الشعواء، ضد عدو لا يرحم، فكما استفاقت إيطاليا مشدوهة ذات صباح من تموز عام 1943، على دوي مدافع تعلن عن بداية حرب عالمية ثانية لاحت في الأفق آنذاك، استفاقت بنفس الروع، أواخر شباط من هذا العام على لمحات حرب عالمية من نوع آخر، قابلها الإيطاليون في بادئ الأمر، بضحكات ونكت مغلفة بالخوف، بأنفة موسوليني، خاضت إيطاليا يومها، حربا طاحنة ضد خصم عنيد، يحمل الرقم 19 ويدعى كوفيد. فاق عدد ضحاياه، قتلى الحرب العالمية الثانية بفرتوفا الواقعة شمال إيطاليا.

 

كانت الجميلة هذا العام على موعد مع آذار أسود قاتم، تجرعت فيه مرارة خيباتها المتوالية، صفعة فقدان ما يقارب 20 ألف مواطن، وأذيّة خذلانها من الإتحاد الأوروبي، من افترض فيه أُمًّا رحيمة بأبنائها، فقد واجهت إيطاليا مصيرها المحتوم وحدها، في محنة منقطعة النظير، ستبقى محفورة في الذاكرة الجماعية الواجمة للإيطاليين، سخط وحنق عارمين يصعب هضمهما، غصة في حلق جلهم، يرَجَّح ألّن يغفروها أبدا على مر التاريخ، في مشهد ترح، شُلت أيادي "لومباردي" التي دأبت على احتضان زوارها القادمين من كل بقاع الأرض، بعظيم الصّبوة وجميل المُصافاة على الدوام.

 

أحصت إيطاليا لأسابيع متعاقبة وفيات يومية بالآلاف، فتوقف نبض الحياة هناك على الأثَر، فأبت على الرغم من ذلك إلا أن تترك سيماء الودّ بذكريات عشاقها، فمنهم من احتفظ بصورة، بطاقة بريدية، شال من أرفع الماركات الإيطالية العالمية، عطر أو تذكار، ومنهم من احتفظ لنفسه بسرّ ذكرى، يحيي طقوسها مع كل رشفة كابوتشينو، رمز ذوق المطبخ الإيطالي العريق، ملأت الجثث مستودعات الأموات وغرف الإنعاش، بل حتى بعض قاعات التزلج التي تحولت في ظل الأزمة لمرفئ لاذت إليه أرواح من قضوا، ضاقت أرض إيطاليا بما رحبت، فلم يعد للرفات الحق في آخر مراسيم الحياة، تشييع جنازة وقبر باسم صاحبها، ولا للأهالي الحق في تقبيل جبين فقيدهم ولا في إلقاء تحية الوداع الأخير.

 

على الرغم من محاولات الصمود وادعاء القوة، تبقى رائحة الموت النتنة تنبعث من كل مكان، وشبح النكبة يواري كل رجاءٍ في الغضارة، وألحان الشجن المغلفة بالفرح – تخفي تقاسيم معزوفة ملحمة العجز خلفها- وتسعى جاهدة لاستفزاز ضحكات المسنين من الشرفات، لتبعث فيهم أملا جديدا في الحياة، فهل ستودع مدينة الدنيا العالم على نغمات بيلا تشاو؟ أم ستصمد الجميلة وتتعافى لتخلع الكمامات قريبا على نغمات نفس الإيقاع، رافعة علمها معلنة بذلك عن عهد إيطالي جديد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.