شعار قسم مدونات

كورونا والغرب وهشاشة القيم

blogs كورونا

قبل أسابيع، تداول نشطاء منصات التواصل الاجتماعي على نطاق واسع حكاية طبيب يعمل بأحد مستشفيات مدينة مارسيليا جنوب فرنسا، يعبر فيها عن صدمته واستيائه الكبير من ردة فعل شاب رفض أن يتواصل عبر الهاتف مع والده الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة، متأثرا بإصابته بفيروس كورونا المستجد، وذلك بعدما طلب الأب من الطبيب أن يربط له اتصالا مع ابنه ليتواصل معه للمرة الأخيرة قبل أن يموت.

قد يبدو الأمر عاديا للبعض، واقعة استثنائية معزولة يمكن أن تحدث مع أي شخص وفي أي زمان أو مكان، لكن الأمر ليس كذلك، فالأنباء التي تواترت بعد ذلك بأيام قلائل من إيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وبريطانيا وغيرها تحدثت عن وقائع ومشاهد مماثلة، قد تختلف من حيث حدتها وتفاصيلها، لكن عنوانها الأبرز هو تخلي الأبناء عن الآباء في عز الحاجة، وفي أوج الاحتياج. كان هذا قبل أن نتابع بدهشة كبيرة كيف عمدت الأطر الطبية إلى التمييز بين المرضى في تقديم الرعاية الطبية اللازمة، وتخليهم عن المسنين بحجة اضطرارهم لذلك، رضوخا لما يفرضه الواقع المتمثل في الكم الهائل من الحالات المصابة المحتاجة إلى الرعاية الطبية، والتي تفوق الطاقة الاستيعابية للبنيات الصحية.

هذه الأزمة أبانت كذلك عن عنصرية مقيتة لا تزال تعشعش في أذهان الكثيرين، وكشفت الستار عن النزعة الاستعمارية التي لا زالت تشكل عند البعض الزاوية التي ينظر منها إلى الآخرين بتكبر واستعلاء

وقائع أسقطت القناع وكشفت أمامنا الإنسان الغربي كما لم نره من قبل، دون مساحيق الحداثة وإكسسوارات التشدق بقيم العدالة وحقوق الإنسان، هكذا بدى لنا غارقا في الأنانية، بائسا فقيرا، لا يملك أية قيمة عكس التمثل الذي طالما علق بأذهاننا. الأنانية البشعة ونزعة البقاء "الحيوانية" هاته لم تقتصر على الأفراد، بل تعدتها إلى الأنظمة والدول، فقد شاهدنا كيف قامت إيطاليا بالسطو على باخرة شحن في عرض البحر، كانت محملة بمادة الكحول الطبي قادمة من الصين في اتجاه تونس. قبل أن يتحدث مسؤولون إيطاليون عبر تصريحات إعلامية على أن الباخرة غيرت وجهتها بقرار من الشركة المنتجة بعدما تلقت عرضا ماليا أكبر للحمولة من قبل إيطاليا، وكأن هذه "القرصنة التجارية" شرعية، وتختلف عن جريمة السطو.

وفي حادثة مشابهة، بعدما أدار الاتحاد الأوروبي ظهره لإيطاليا، وبينما لا تزال تئن تحت وطئ الصدمة، تتجرع مرارة الخذلان بعدما تخلى عنها الجيران في ظرفية حرجة حين كانت في أمس الحاجة إليهم، استولت جارتها جمهورية التشيك على شحنة من الكمامات الطبية كانت متجهة إليها قادمة من الصين، وحسب ما نشرته صحيفة "لاريبوبليكا" ذائعة الصيت في إيطاليا فإن السلطات التشيكية قامت بمصادرة الآلاف من الأقنعة الطبية التي منحتها الحكومة الصينية كمساعدات لإيطاليا تحت غطاء "عملية أمنية ناجحة" لإحباط عملية تهريب للآلاف من المعدات الطبية خارج البلاد. لتلدغ إيطاليا من الجحر مرتين وتكتوي بنيران صديقة عمقت جراحها، وزادت من قتامة الوضع ومأساوية المشهد عندها.

إسبانيا بدورها التحقت بالركب، فامتنعت عن تزويد المغرب بشحنة من أدوية الأنسولين، وفق ما تنص عليه اتفاقية تجارية بين البلدين اقتنى بموجبها المغرب كمية من الأدوية من جارته الشمالية، قبل أن ترفض السلطات الإسبانية إرسالها بداعي احتياجها لها في ظل الأزمة التي تعيشها جراء الانتشار الواسع للفيروس بين مواطنيها. هي أحداث ووقائع أزالت اللثام عن وجه آخر للغرب لم نعهده، وأبانت عن منسوب الأنانية والجشع المخفي وراء مظاهر الحداثة وشعارات قيم التعاون والحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.

هذه الأزمة أبانت كذلك عن عنصرية مقيتة لا تزال تعشعش في أذهان الكثيرين، وكشفت الستار عن النزعة الاستعمارية التي لا زالت تشكل عند البعض الزاوية التي ينظر منها إلى الآخرين بتكبر واستعلاء. وأن نظرية "العرق الأسمى" و"الداروينية الاجتماعية" لا تزال عقيدة البعض ممن يعتبرون من "النخبة" داخل المجتمعات الغربية. فقد شاهدنا – بامتعاض كبير- الخرجة الإعلامية المهينة لاثنين من كبار الباحثين الفرنسيين في مجال الطب، أحدهما يشغل منصب مدير الأبحاث في المعهد الوطني الفرنسي للصحة والبحوث الطبية، المعروف اختصاراً باسم INSERM، والذي يصنف على أنه ثاني أفضل معهد في مجال البحوث الطبية على مستوى العالم، و كيف أعلنا على الهواء مباشرة في برنامج تلفزيوني على قناة فرنسية اقتراحا بأن تكون إفريقيا مختبرا لتجريب لقاح فيروس كورونا المستجد، مبررين سقطتهما الأخلاقية هاته بافتقار القارة السمراء إلى الموارد الضرورية واللازمة لمكافحة الفيروس.

مثال آخر ومشهد إضافي لهذا الاندحار القيمي، لا يقل وطأة عن سابقيه، بلغنا من ولاية ألاباما الأمريكية، فقد عممت سلطات هذه الولاية توجيهات صارمة للمصالح الصحية أمرت من خلالها بعدم التكفل الطبي وتقديم العلاج للأشخاص ذوي إعاقة التوحد ومتلازمة داون والشلل الدماغي، إذا ما أصيبوا بالفيروس، وإعطاء الأولوية للحالات الأخرى، بمبرر خروج الوضع عن السيطرة، وعدم كفاية موارد النظام الصحي للتكفل بالعدد الكبير من الحالات المصابة التي تحتاج لرعاية طبية. هكذا أبانت الأزمة التي يعيشها العالم اليوم جراء انتشار فيروس كورونا المستجد عن حقائق كثيرة قد يجهلها البعض، وكشفت الستار عن وقائع صادمة لم تكن تبدو للعيان، وأسقطت القناع عن وجوه عديدة.

فقد اتضح من خلال الوقائع والأحداث المتفرقة التي تابعناها، وبدى جليا عبر الصور والمشاهد المنقولة من هنا وهناك أن منظومة القيم عند الغرب ماضية في التآكل والتحول، ولم تعد بتلك الصلابة والقوة التي شكلت أساس نهضته ومنطلق طفرته الحضارية. ولم يكن أحد ولاسيما من المنبهرين بالغرب يتصور أن تبلغ الهشاشة في منظومة القيم الغربية هذا المبلغ، ولم يتوقع أحد هذا السقوط المدوي للقيم والمبادئ والأخلاق كما نراه اليوم، مما يشكل منعطفا مهما قد يدفع الكثيرين إلى نقد المنظومة القيمية للغرب، وإعادة النظر في العديد من المواقف والتمثلات المترسبة في أذهاننا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.