شعار قسم مدونات

جائحة كورونا.. دعوة لإعادة فهم ذواتنا وإمكانياتنا الضعيفة

blogs كورونا

نرى أن واقع هذه الأيام يشهد على المقولة القائلة لكل محنة في طياتها منحة.. فجائحة كورونا أظهرت لنا نقاط القوة التي كنا نجهلها كمواقف الدعم والمساندة بين حكومات العالم أو المنظمات الدولية وحتى إعفاءات صندوق النقد الدولي لبعض الدول.. وكذلك امتلاك الإرادة على إيقاف الأعمال العدائية بين الدول وحتى بين الدول وعصابات المافيا في العالم.. حتى غدا العالم اليوم يشهد سلاماً واستقراراً إجبارياً ملحوظاً.. وكذلك إرادة الإنسان ودافعيته للبقاء رغم أن القتال المستميت لأجل البقاء للأقوى بين جيش الأطباء الأبيض وبين الفيروس التاجي هي مواجهة من طرف واحد ظاهر وذلك القاتل خفي..

كما أظهرت الجائحة نقاط الضعف الكامنة من خلال الهشاشة في البنيات الطبية الأساسية في كثير من دول العالم.. وكذلك الضعف في إجراءات السلامة والخطط الإسعافية وانعدام الاحتياطيات المتوقعة أو توفرت لكن دون المنتظر.. من المعلوم أن مقومات الحياة الأساسية التي لا غنى لأحد عنها هي (المأكل والمشرب والملبس والمسكن) ثم تتفرع منها باقي الحاجيات على مستوى الضروريات ثم الكماليات ثم التحسينيات.. فلو وجدت تائهاً في صحراء قد اشتدت عليها الرمضاء وجف ضرع ماشيته ونفد مخزون طعامه ثم خيرته بين بنك ذهب العم دهب (الشخصية الكرتونية) أو خزانة معبأة بالمال وبين إعطائه مؤنة من ماء وطعام تبقي على حياته وكسوة تقيه حر الشمس لاختار بلا تردد التي تُبقي على حياته..

يمكن القول أن الكورونا علمتنا درساً واقعياَ وقاسياً وهو أن أموال الدنيا كلها.. كلها.. قد تأتي في لحظة لا تنفع ولا تضر.. وتكون أساسيات الحياة (المسكن والصحة والأمن النفسي)

إن رأس مال الإنسان في الحياة هي نفسه التي بين جنبيه.. فمادة الحياة التي يستقي منها إكسير حياته ونشاطه وتطوره ورقية الاجتماعي وفاعليته إنما هي بسبب توفر الصحة البدنية والنفسية والأمن العام والعيش الكريم لنفسه وأهله ووطنه.. فمتى انعدمت انعدم العمل والإنتاج واختل نظام الحياة. عند تناولنا للجائحة ينبغي أن يكون مختلفاً تماماً مقارنة بتعاطينا مع الأزمات الوبائية السابقة كون هذا الوباء استثنائي من حيث: الانتشار والتأثير والأثر العكسي على الأنفس وعلى اقتصاديات الدول وبالتالي إعادة تشكيل التحالفات الدولية والإقليمية.. وتغير فلسفات النظم الاقتصادية السائدة.. لأجل إنتاج النظام العالمي الجديد..

فقد لا يدرك أصحاب النظرة المادية أو الفكر المادي أو النظام الرأسمالي المادي برمته.. فحوى دلالة التشبيه في الحديث النبوي الذي يقول (من أصبح آمنا في سربه معافا في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) إلا في عصر الكورونا 2020م الذي بلغت فيه الحضارة البشرية والنمو المدني والتطور التكنولوجي وتقدم التقنية وتوفر أدوات البحث العلمي الجيد أعلى قمته.. في الأول كان الحديث يبدو غير منطقي وغير مقبول لكل متأثر بالثقافة المادية (التي تعتبر الإنسان والمادة محور الكون).. كيف لتوفر بديهيات الحياة الكريمة التي أشار إليها الحديث من (الأمن العام والسلامة النفسية والعضوية وتوفر مجرد قوت اليوم) أن تنافس وتفضل وتقاس وسائل الراحة وسبل الرفاهية التي أنتجتها العقول البشرية في عصر الآلة والذكاء الاصطناعي.. بل وتفضل على الدنيا بحذافيرها!

وكأنه يدعو للزهد والتزهد.. وترك التطور العلمي والرقي المدني.. ما يعكس كأنه توجه مفضل أو كفلسفة ديانه لرسالة الإسلام في نظرته للكون والحياة وعلاقتها بالإنسان وعلاقته بها تدعيماً للمقولة (جئنا لنعبره لا لنعمرها).. لكن أظهرت الكورونا أن مغزى دلالة ألفاظ الحديث أعمق بكثير وإن تقاصرت في إدراكه العقول ذات النظرة المادية وتقاذمت أمامه منطق الوجودية بمدارسها المختلفة (الملحدين – الربوبيين – اللاأدريين) التي ترى أن تعاليم الأديان إنما هي تعاليم تاريخية تنتهي بانتهاء ظروفها ودواعيها..

فأثبت الحديث حجم الهشاشة للتطور البشري العلمي والتقني.. وكيف أن فيروس بحجم النانومتر لا يرى بالعين المجردة وحتى بالمجهر الضوئي البسيط أقعد كل العالم (بكل ترسانته العلمية والتكنولوجية والطبية ومخزوناته الاستراتيجية) مشدوها ومتخبطاً تراه في إجراءاته وتارة في تصريحاته أمام قاتل خفي قادر على تحوره جينياً ومع قابليته لإنتاج سلالات منه تختلف باختلاف الظروف الحاكمة.. وقادر على التكاثر لمئات ومئات الخلايا من خلية بدائية واحدة في فترة حضانته التي تمتد لأسبوعين..

في ظل هذا الوضع المتلبد بالغيوم والمُدلهم بالتوقعات المرعبة والمشحون بالتكهنات المحبطة والعصيب في تاريخ العالم الحديث، أصبح إنسان القرن الواحد والعشرين كل همه توفير بيئة صحية منزلية آمنة وطلب راحة واستقرار نفسي (لدعم الجهاز المناعي لمجابهة المرض) وتأمين قوت المعيشة لبضعة أيام وليالي (بعد ندرة السلع وغلاء أسعارها بسبب هلع الإنسان الضعيف من جانب وجشع التجار من جانب آخر)..

يمكن القول أن الكورونا علمتنا درساً واقعياَ وقاسياً وهو أن أموال الدنيا كلها.. كلها.. قد تأتي في لحظة لا تنفع ولا تضر.. وتكون أساسيات الحياة (المسكن والصحة والأمن النفسي) هي أساس الوجود وإكسير الحياة! أظهرت أزمة الكورونا عمق المستوى الدلالي وروعة التشبيه البلاغي (البليغ) لكلام الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى -صلى الله عليه وسلم- ما يربو عن 1440 عاماً..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.