شعار قسم مدونات

ما حقيقة احتواء ألمانيا لوباء كورونا؟

blogs كورونا

تناقلَت وسائلُ الإعلامِ مُؤَخراً خبراً مفادُهُ أنّ جمهوريةَ ألمانيا الاتحاديةِ أحكَمَت سيطرَتَها على فيروس كورونا المستجدِّ. واستناداً إلى التقريرِ الصادرِ عن معهدِ روبرت كوخ (Robert Koch Institut) الألماني، وهو المؤسسةُ المخوّلةُ رسميّاً بمراقبةِ تفشي الأمراضِ المُعديةِ داخلَ ألمانيا، فقد أظهرَ تحليلُ بياناتِ الإصابةِ بمرض كورونا المستجدّ (Covid-19) تراجعاً ملحوظاً لمعدلاتِ العدوى خلالَ الأسابيعِ الماضيةِ. هذا يُؤكّدُ نجاحَ ألمانيا في تخفيضِ معدّلِ استنساخِ الفيروسِ (Reproduction Rate) من 3 أشخاص مطلعَ شهرِ آذار الماضي إلى ما دونَ الواحدِ منتصفَ شهرِ نيسان الجاري. فهل يعني ذلك أنّ خطرَ تفشي وباءِ Covid-19 في طريقهِ إلى الزوال؟

فيما يلي سأعرضُ بإيجازٍ مراحِلَ استعدادِ ألمانيا لمواجهةِ فيروس كورونا لحظةَ انفلاتِهِ من عقالِهِ في الصين وصولاً إلى تقليصِ معدّلِ استنساخِه على الأراضي الألمانيةِ، لافتاً الانتباهَ إلى دلالاتِ ذلك على أرضِ الواقعِ من منظورِ البياناتِ العدديةِ.

كيف استعدت ألمانيا على طول مراحل تفشي الوباء؟

منذُ اللحظةِ الأولى لتفشي وباء Covid-19 في مدينةِ ووهان الصينيّةِ، وفي الوقتِ الذى ظنَّ فيه الرئيسُ الأمريكيُّ دونالد ترامب أنّ الولاياتِ المتحدةَ الأميركيةَ بِمنأىً عن الفيروسِ "الصينيِّ" كما يطيبُ لهُ أن يُسمّيه، حذّرَ البعضُ في ألمانيا من أنّ فيروس لا يلبثُ أن يطرقَ أبوابَ القارةِ العجوزِ. أحدُ هؤلاء كانَ البروفيسور ألكسندر كيكولي (Alexander Kekulé) مديرُ معهدِ بحوثِ الأمنِ البيولوجي بجامعةِ مارتن لوثر في مدينةِ هاليه (Halle) الألمانية.

بحلول شهرِ أبريل نيسان الجاري بدأت الإجراءات الألمانية تُؤتي أُكلَها. فمع نهايةِ الأسبوعِ الثاني من نيسان بدأَ معدّلُ استنساخِ فيروس كورونا (أي عددُ الأشخاصِ الذين يمكنُ لحاملِ الفيروس أن ينقلَ إليهم العدوى) بالتناقصِ من يومٍ إلى يوم

ففي أواخر شهر يناير من السنةِ الجاريةِ دعا بروفيسور كيكولي مع مجموعةٍ من خبراءِ الأوبئةِ والفيروساتِ إلى تشديدِ إجراءاتِ الرقابةِ الطبيةِ على القادمين إلى ألمانيا في كافّةِ المطاراتِ الألمانيةِ، كما وأوصى بإغلاقِ المدارسِ وتقييدِ التجمعات كإجراءٍ وقائيٍّ لمجابهةِ الوباءِ المتفشي. جديرٌ بالذكر أنّ بروفيسور كيكولي هو النسخةُ الألمانيةُ للبروفيسور البريطاني جون أكسفورد (John Oxford) من حيث الموقفِ المتفهِّمِ لفكرةِ "مناعة القطيع" كاستراتيجية طبيعيةٍ لمقاومةِ العدوى في ظلِّ غيابِ الدواء اللازمِ. غيرَ أنّ كيكولي يُضيفُ إلى حماسِ القائلين بمناعةِ القطيعِ ضرورةَ الموازنةِ بين البدائلِ المتاحةِ بحيثُ تُواكبُ إجراءاتُ مكافحةِ الوباءِ مراحل تطورِه المختلفة.

ضمنَ أجواءِ الترقّبِ وفي إطارِ التفكيرِ في الكيفيةِ المُثلى لاستقبالِ الزائرِ غيرِ المُرحَّبِ بهِ، شرعت الجهاتُ المختصةُ بتجهيزِ المستشفياتِ ودورِ المسنّين وتعبئةِ الطواقمِ الطبيّةِ وتزويدِها بأحدثِ نتائجِ الدراساتِ في العالمِ حولَ طبيعةِ الفيروس المستجدِّ وكيفيةِ التعاملِ مع المرضِ والأعراضِ المصاحبةِ له، كما وأوجبت على أفرادِ الطواقمِ الطبيةِ أن يقرؤوا كُلَّ ما يُرسَلُ إليهم عبر البريدِ الإلكتروني من مُتعلقاتِ الوباء.

غيرَ أنّ واحِداً من أهمّ الأهدافِ التي عكفَت المنظومةُ الطبيةُ الألمانيةُ على تحقيقِها، كانَ ضربَ قدرةِ الفيروسِ على الانتشار بإنقاصِ مُعدّلِ الاستنساخ لديهِ. ولتحقيقِ ذلك أجرت ألمانيا مُبكّرا – وعلى نطاقٍ واسعٍ – مُسوحَ إختباراتٍ لعيناتٍ عشوائيةٍ كانت الغايةُ منها تحديدَ سرعةِ تطورِ الوباء في مراحِلِهِ الأولى والإحاطةَ بمدى استفحالِهِ. كما وتدرّجت – على مدارِ الأسبوعين الأوسطينِ – من شهر آذار في تطبيقِ إجراءِ التباعدِ الاجتماعي (social distancing) بدءاً بإلغاءِ الأنشطةِ التي يفوقُ أعدادُ المشاركين فيها عتبةَ الألفِ شخصٍ وانتهاءً بتعميمِ حالةِ الإلغاء على كافةِ الأنشطةِ وجُلِّ التجمعاتِ لأكثرَ من شخصين باستثناءِ أفرادِ الأسرةِ الواحدةِ، سعياً لتسطيحِ منحنى الانتشارِ (flatten the curve). فكما هو معروفٌ من دراساتِ علوم الاقتصاد السلوكي (behavioral economics)، فإنّ نجاحَ استراتيجيات التباعد الاجتماعي مرهونٌ بالمدى الزمني لقدرةِ الأفرادِ على تحمّلِ التباعد المفروضِ عليهم، بالإضافةِ إلى التوقيتِ الصائبِ للحظةِ البدء بتطبيق التباعدِ (وإلاّ استُنفذت طاقةُ الاحتمالِ لدى الأفرادِ قبلَ بلوغِ لحظةِ الذروةِ المستوجبةِ للإبقاءِ عليهم متباعدين).

ألمانيا تنجحُ في تخفيض معدل استنساخ فيروس كورونا

بحلول شهرِ أبريل نيسان الجاري بدأت الإجراءات الألمانية تُؤتي أُكلَها. فمع نهايةِ الأسبوعِ الثاني من نيسان بدأَ معدّلُ استنساخِ فيروس كورونا (أي عددُ الأشخاصِ الذين يمكنُ لحاملِ الفيروس أن ينقلَ إليهم العدوى) بالتناقصِ من يومٍ إلى يوم. ففي حين أن معدل الاستنساخِ مطلعَ شهرِ مارس آذار الماضي بلغَ بالمتوسطِ 3 أشخاص لكلّ حاملٍ للفيروس، فقد تراجعَ المعدلُ في الأسبوعِ الأخيرِ من آذار ليبقى متأرجحاً حول القيمةِ العدديةِ 1. بعدها ارتفعت قيمتُهُ قليلاً، لتعودَ إلى الهبوطِ المستمرِ من الثالثِ عشر من شهرِ نيسان وتصلَ إلى القيمةَ المستهدفةَ والقاضيةِ بضمانِ عدمِ تفشي العدوى (أي أقل من واحد).

ما دلالات تخفيض معدل استنساخ فيروس كورونا في انتشار الوباء؟

معدل استنساخ أيّ فيروس هو عدد الأشخاصِ الذين يمكن لحاملِ الفيروس أن يَنقُلَ العدوى إليهم. وفي الوقت الذي لا يُنظرُ إلى هذا النوعِ من المقاييسِ العدديةِ كإحدى خصائصِ الفيروسِ (لكونِهِ يرتبطُ بعواملَ خارجةٍ عن حدودِ تحكُّمِهِ)، إلاّ أنّهُ يُعبّرُ فعليّاً عن قدرةِ الفيروس على الانتشار. في حالةِ فيروس كورونا فإنّ معدّل استنساخِه يتراوحُ في الظروفِ الطبيعيةِ بين 2.4 و 3.3. أي أنّ الشخصَ الحاملَ للفيروس ينقلُ العدوى إلى شخصين أو ثلاثةِ أشخاص في المتوسط (من هنا كان وجوبُ انتشارِ العدوى في 60 إلى 70 بالمائة من السكان لإحداثِ مناعةِ القطيع).

معهد روبرت كوخ الألماني قامَ بقياسِ معدّلِ استنساخِِ فيروس Sars-Cov-2 باستخدامِ نماذجَ إحصائيةٍ متطورةٍ تستندُ إلى مبدأ التنبؤ الآني (Nowcasting). وحيثُ أنّ الأمر يتعلّقُ ببياناتٍ ذاتِ طبيعةٍ ديناميكيةٍ، تتغيّرُ في الظروفِ القياسيّةِ، فإنَّ معدّلَ استنساخِ فيروس كورونا لا يحملُ دلالةً ممتدةً زمانيّاً، إذ هو متغيرٌ بحسبِ تدخّلِ أو عدمِ تدخّلِ عواملَ خارجيةٍ كإجراءاتِ الوقايةِ أو العزلِ والتباعدِ الاجتماعي. يُضافُ إلى ذلك عدمُ توافرِ بياناتٍ أكيدةٍ لعددِ المصابين غيرِ المعلومين والتي لا بدّ من توافرِها لنجاحِ تطبيقِ التنبؤ الآني. وعليه، ما من شكٍّ في أنّ الجهدَ الألماني بتخفيضِ معدّلِ استنساخِ فيروس كورونا يستحقُّ بالغَ التقديرِ والاعتبار، إلاّ أنّه يبقى التطلعُ إلى اكتشافِ الدواءِ النهائي هو المعوّلُ عليهِ في كبحِ جماحِ الوباء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.