شعار قسم مدونات

بينما يَنْتُج عالم جديد هناك من يعيش أزمة أزلية

blogs كورونا

الحرب الأشرس التي يواجهها البعض بصمت ووحدة في ظل موجة الحظر الصحي، هي حرب البقاء والتصدي للجوع والمرض، والتماسك إلى أن تنقشع غيمة كورونا السوداء غزيرة المفاجآت، والتي لا أحد يعرف سبيلاً حقيقياً واضحاً لخلاصها وانتهائها. حرب أولئك الذين بالكاد كانوا يجمعون قوتهم بشكل يومي، أو حتى أصحاب الدخل القليل الذي لا يحتمل أسباباً طارئة تجعله يزداد انكماشاً، وهم ذاتهم الذين كانت أقصى أمنياتهم أن ينتهي يومهم وقد تمكنوا من توفير أبسط حوائجهم.

  

كثرُت التنبؤات حول انتهاء الأزمة العالمية التي سبّبها فيروس كورونا وانتشاره الشرس، وعطفاً عليها أيضاً كثرت السيناريوهات المحتملة للعالم الجديد من بعده، بجوانبه الاقتصادية بالتأكيد والاجتماعية والنفسية والصحية. البعض أمهلها بضعة أشهر، وآخرون يتوقعون امتداد آثارها الكارثية المباشرة حتى نهاية هذا العام وغيرهم يتوقعون استمرارها حتى نهاية العام القادم. سلسلة التوقعات مشابهة لسلسلة التكهنات حول أسباب تكوّن الفيروس وانتشاره، وهي لا تنتهي بل تتجدد بشكل تلقائي كل يوم.

  

وضمن العزلة المفروضة على الجميع كلّ يحاول استثمار ما يملكه من فكرة أو وقت أو حلم أو مشروع على أمل أن تنتهي ويرافقها نتاج طيب. على الصعيد الأدبي مثلاً هناك من بدأ فعلاً بتحويل الأحداث إلى نص يروي واقعه الحي بمصاحبة خياله، وآخرون يراقبون ويستلهمون مما يجري أحداثاً قد يُبنى عليها نصوص مستقبلية، فلا يمكن تجاهل ما يحدث، فهو زمن يحمل خصوصية غير مكررة على غرار زمن الكوليرا الذي بنى عليه ماركيز رائعته “الحب في زمن الكوليرا”، وهو العنوان الأكثر تردداً واقتباساً هذه الأيام.

  

رغم أني أجد الصورة غير مكتملة بعد، فحتى انتهاء الوباء واستقرار الصورة الجديدة للعالم وما سيؤول إليه، يبدو الوضع قابلاً للتندر ومع ذلك فالأثر الكارثي لن يختلف على البعض، فهم ليسوا بحاجة إلى تلك التنبؤات بل لعلهم الصورة المستقبلية الواقعية للأزمة التي يحاول البعض وصفها، فعلى سبيل المثال نُشرت قبل أسابيع قليلة تقارير في الولايات المتحدة، تؤكد أن الأفارقة من ذوي البشرة السوداء هم الضحايا الأبرز في الولايات المتحدة بحيث ترتفع بينهم نسبة الوفيات من المصابين بالفيروس، وذلك بحد ذاته أثار زوبعة من التساؤلات والانتقادات حول التأمين الصحي المتاح لهم وظروفهم المعيشية الصعبة والعنصرية الموجهة ضدهم في بعض الولايات.

   undefined

  

هؤلاء وإن كانوا الحاضر لكنهم صورة ثابتة للفقر في الماضي وفي المستقبل، وهم كذلك المرادف للفقر والفقراء في كل دول العالم وبالأخص في أوطاننا، وبالتالي الفئة الأشد تأثراً بلا شك بأي جائحة أو أزمة تصيب العالم في أي زمان ومكان، الفرق الوحيد أن إعلامهم هناك قادر على تسليط الضوء على هذا الواقع بينما في البلاد العربية يتم التعتيم على هذه المسألة أو ردها إلى أسفل قائمة الأولويات، بحجة أن الجائحة عامة وأصابت الجميع، والجهود تُبذل للنجاة وتشمل الجميع. أصحاب الاستثمارات والملايين بل المليارات سيعوضون خساراتهم بما تبقى من ملايينهم بعد هذا الركود، لكن هؤلاء لن يعوضوا أرواحهم المهمشة فوق التراب وتحته، فالعزلة أو الحجر أو التوقف عن العمل مهما كانت التسمية ليست إلا قيد جديد يضاف إلى سجنهم الحياتي وحصار ظروفهم المُجهِدة ذلك ما جعلهم أول الضحايا.

 

تلك هي الفئة التي لا بد من توجيه الاهتمام عليها وإعطائها الأولية القصوى، ليس فقط وسط هذه المحنة، فهم لا يملكون ما يساعدهم على البقاء، وليس لديهم مخزون مادي ولا حتى بنية صحية قوية تجابه المرض، ماذا عن أولئك الذين ليس بإمكانهم تدوير الأشياء البسيطة والعودة إلى الوراء على سبيل المتعة كما يفعل البعض وهم يستعرضون صور إعداد الخبز المنزلي وغيره من الوصفات البيتية القديمة وكأنه في نزهة ريفية ضمن إجازة طويلة، كيف سينجو هؤلاء من هذا المنعطف الحاد إلى أن يصبح الطريق ممهداً للحياة من جديد؟

 

نعم تتصيد الشعوب اليوم أخطاء حكوماتها وهفواتها فما يحدث لها كفيل بأن يخرجها عن صمتها، تأخر استجابة الدول العظمى لتهديد كورونا واستهتارها به كان تقليلاً بمكانة وحجم الإنسان، فالهموم الاقتصادية والسلطوية لها دوماً الأولوية الكبرى، وبالطبع لحقت بها الدول الأخرى ومنها النامية فتأخرت هي الأخرى. سياسات الحكومات في العالم وكيفية توجيهها نحو شعوبها في ظل طابعها الأناني المقيت والبعيد عن المسؤولية، تذكرني بنص ساخر لفولتير من روايته “كنديد” حين كتب:- «وكان قد قُبض على رجلين أكلا فرخة مع نزع شحمها، فقيّد الدكتور بنغلوس وتلميذه، الأول لأنه تكلّم، والآخر لأنّه استمع له سماع استحسان».

 

منذ زمن والحروب تجعلنا نرى عوالمنا بخرائط مشوّهة لا تشبه تلك التي عرفناها كما لم تصل بعد إلى شكلها النهائي، اليوم هذه العاصفة الصحية الخبيثة ستأخذنا إلى عالم جديد بعد أن اهتزت أركانه القديمة بلا شك. حين نخرج من هذا الاستثناء الزمني، هل سنعود إلى أنفسنا ذاتها الواثقة من ثبات الأرض التي تحملها أم ستتكون أنفس جديدة يغزوها الشك، القادم أصعب بلا شك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.