شعار قسم مدونات

تناقض السلطة

blogs - chess

إن النفوس الكريمة الأصيلة هي تلك النفوس التي لا تتغير مع تغير الأحوال والزمان، كما أنها تبقى حافظة لوفائها لمن حولها، وتبقى ثابتة على مبادئها وقواعدها حيث الأخلاق وتطبيق الشريعة السماوية وغيرها من الأخلاق الحميدة والمحبوبة وإن وصلت إلى أعلى المناصب وإن وصلت إلى أعلى الأموال.

  

بينما الزائف من هذه النفوس فإنه عندما يصل إلى أي منصب فإن نفسه تتغير وعندما يصبح ذات مال وثروة يبدأ في التعالي على خلق الله ويتكبر عليهم وربما يتنكر منهم، وأن كانوا هذا الخلق من أهله فلا يخشى التعامل معهم بهذا الأسلوب دون خوف أو حذر، فتجده ينسى أخوانه وأصدقائه وأقاربه وأهله، ولهذا الأمر قيل أن الأموال هي سبب تغير النفوس، كما أن المناصب والشهادات ودرجات الدنيا المختلفة تتسبب في تغير النفوس، وبالتالي فيجب أن نتعامل مع الناس بجانب من التواضع والتواصل الحسن مع من حولنا، وذلك حتى وإن حدث لنا تغير في الوظائف فليس علينا أن نتحول من شخص إلى آخر، فقال الله عز وجل في كتابه الكريم حول هذا الأمر: (وإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ) سورة فصلت، الآيه 51.

 

دراسات نفسية حول تناقض السلطة

أثبتت عدد من الأبحاث النفسية أن هناك عدد كبير يصل إلى أكثر من 80 فالمئات ممن يحصلون على ترقية ومنصب جديد نجدهم تتحول أخلاقهم بالسلب بشكل ملحوظ، ولعل تفسير هذا الأمر يرجع إلى زهو السلطة التي لا يستطيع الجميع جموحها والتصدي لتحدياتها مما يجعل الفرد ينقلب رأسا على عقب، فالله عزل وجل هو من ينعم على الإنسان بالمال والعافية والرزق وينال العبد ما يريد ويصبو بفرج من الله عز وجل، وبالتالي فعليه أن يشكر الله وحده لا شريك له، ولا يظن أن ما ناله من النعم هو تمييز له عن باقي خلق الله، بل يجب أن نعلم أنه فضل ونعمة من الله عز وجل وعلينا جميعا أن نشكر الله عليها حتى يزيدنا من فضله، ولو دامت تلك النعمة يجب علينا أن نستمر في شكر الله، وإن زالت أيضا فنحمد الله وحده لا شريك الله.

   

التواضع رأس الحكمة

فلا تغتر بمنصب أو شهادة أو ترقية أو مال أو صفقة، فهي مقادير تأتي وتذهب بمشيئة الله عز وجل، فانظر إلى تواضع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما فتح الله عز وجل عليه مكة، ومكنه من أعدائه كيف دخلها مطأطأ الرأس توضعا لله عز وجل، حيث قال أنس رضي الله عنه: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه على راحلته متخشعاً، كما أنه لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وظن المشركين أنهم أحيط به، وأنه سيبيرهم ويهلكهم لا محالة بعدما فعلوا الذي فعلوه به وبأصحابه، إذ به يعفو عنهم، ويعاملهم بقدر من الفضل والإحسان، فعن عمرو بن سلمة قال: كانت العرب تلوَّم بإسلامهم الفتح، -يعني ينتظرون، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق، فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم. (رواه البخاري 4302).

   undefined

  

فبعض الناس يكونوا بعد النعمة أكثر تواضعا مما كان قبل ذلك، ومنهم عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه، فكان قبل أن يتولى الخلافة هو أترف الناس عيشا، وكان أكثرهم إنفاقا على الملابس والطعام والحياة السعيدة، وكانت الجواري تتعجب من نزاهته، عندما تزوج بزوجته فاطمة وضعوا زيت السرج مسكا وهذا من الإسراف، فلما بويع بالخلافة أتى بمراكب الخلافة البراذين والخيل والبغال، وكان لكل دابة سائس فقال: ما هذا؟ قالوا: مركب الخلافة، فقال: دابتي أوفق لي، فركب دابته فصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائراً، فقيل: منزل الخلافة، فقال: في فسطاطي كفاية، أتته الدنيا فتركها.

 

فتنة المال وتحدي السلطة

الله عز وجل جعل المال فتنة للناس، ومحكا لتمييز معادنهم، فكم رأينا ممن كان في عسر متواضعا ومتبسطا لجلسائه، فيواسي الضعيف ويرحم الصغير لقلة حاله، وعندما ينعم الله عز وجل عليه بالمال يبدأ في التكبر على من حوله، ألم يأتنا نبأ الثلاثة من بني إسرائيل الأبرص والأقرع والأعمى، وتناول القرآن الكريم تلك الشخصيات في العديد من المواضع، فقال الله عز وجل: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون) (سورة التوبة 75-76)، كما قال أيضا عز وجل: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد) سورة إبراهيم، الآية 7.

 

يجب أن نوضح أن الأموال والمناصب في الواقع لا تغير النفوس، ولكنها تساهم في كشف النفوس على حقيقتها، وتساهم في معرفتنا بحقيقة الأفراد

فيجب أن نعلم أن النفوس في طبيعتها تتبدل وتتغير مع تغير الزمان والمكان، وبالأخص عندما ينعم الله عز وجل على الإنسان بالمال والعافية والرزق والفرح، فعلى الإنسان أن يشكر ربه، دون أن يدرك ما حوله من الذل، فلا يجب أن يكون المال والجاه والمناصب هم من يغيرون النفوس لدى الناس، وهم من يجعلوهم ينكرون أفضال أصدقائهم ورفقاء دربهم وأهلهم، ولا علينا أن ننكر بأن هناك قليلا ممن هذبت الأموال نفوسهم وحولتهم إلى أفراد يخافون الله في أنسهم وفي أهلهم، وعلموا ما هو الطريق الصحيح الذي به يستطيعون توظيف هذا المال في حمد الله عز وجل وفي مساعدة الفقراء وفي نفس الوقت لا يبخلون على أنفسهم ولا يكنزون المال، فالحياة الدنيا لا تدوم لأي فرد، وعلى الإنسان أن يبذل أقصى جهد له حتى يترك شيئا يذكره به الناس، حتى لا يصبح في يوما ما منسيا.

 

العلاقة بين المنصب والأخلاق هل هي طردية أم عكسية؟

وبالتالي فيوجد علاقة كبيرة بين كل من الأخلاق والمنصب والشهرة، حيث إننا نرى أن المال يغير الأفراد يوما بعد الآخر وبالأخص عندما يرتبط بين الشهرة والمنصب، وهذا الأمر نعاصره في عالمنا الحالي، فهناك بالفعل من يرى بأن المال هو عنصر أفضلية على الآخرين، وبالتالي فترى البعض أن الشخص يتحول بسهولة إلى شخص سيء في الطباع، ويكون على قدر من الغرور والتعالي، فتجده يجامله الناس على منصبه الجديد فلا يتعامل معهم من باب التواضع، ولكن من باب التكبر. وعلى الرغم من ذلك فهناك الكثير من الأفراد ممن يملكون المال ولكنهم يقدمون أفضل الأمثلة في التواضع والبساطة والكرم واحترام الناس، كما أنهم يضعون تلك النعم ممن أنعم الله عليهم لخدمة الناس ومساعدة المحتاجين، وهذا النوع هو معدن أصيل لا يغيره الزمان عندما يصبح ذات أفضلية أو تمييز.

  

فخلاصة القول بأننا أصبحنا اليوم في زمن فيه العديد من المغريات التي يراها البعض على أنها أهداف ويسعى للركض خلفها، وحين يحققها يظن بأنه قد وصل قمة الأهداف وينجرف معها مما يجعله يخسر كل ما يملك ويخسر نفسه ويخسر حب الناس ممن حوله، وفوق كل هذا وهو الأصعب أنه يخسر رضي الله عز وجل، وبالتالي فعلينا جميعا أن نكون على قدر من التواضع بين الناس، ولا نجعل أي شيء يغير بنا أطباعنا أو إنسانيتنا بل يقود سلوكياتهم إلى ما هو أسوأ، بل نسعى دائما إلى أن نكون الأفضل في تلك الحياة.

  

وفي النهاية يجب أن نوضح أن الأموال والمناصب في الواقع لا تغير النفوس، ولكنها تساهم في كشف النفوس على حقيقتها، وتساهم في معرفتنا بحقيقة الأفراد، وتساهم في تعامل كل فرد من خلال ما بداخله، وقد سألوا سيدنا عمرو بن الخطاب رضي الله عنه كيف تعرف أخلاق الناس وكيف تعرف أن فلان يستحق وفلان لا يستحق، قال: إذا أردت أن تعرف المعنى الحقيقي للإنسان اجعله في منصب أي أجلسه على الكرسي.

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.