شعار قسم مدونات

النيوليبيرالية والنيوديكتاتورية.. أيهما سينتصر في زمن كورونا؟

blogs كورونا

كان لا بد أن يعقب أزمة 1929 حدث عالمي كبير، تمثل الحدث في نشوب الحرب العالمية الثانية بعد عشر سنوات. الحرب العالمية الثانية أعادت فيها الرأسمالية تجديد نفسها، وحاولت الاشتراكية تعزيز مواقعها، الرأسمالية استفادت من تجديد دمها الليبرالي لتعيد بناء أوروبا غربية جديدة متقدمة، مركزة على عنصر النوعية والانتقاء، سعيا منها الوصول إلى سقف النيوليبيرالية، سقف تعدو فيه الدول بسيادتها مجرد وصي لا دخل له في الاقتصاد. كذلك حاولت الاشتراكية تعزيز مواقعها بالتركيز على عنصر الكم، وحاولت الوصول إلى كم كبير من الشعوب دون انتقاء يذكر، وصولا إلى المبتغى العام وهو إحقاق الشيوعية، التي يتساوى فيها الكل في امتلاك وسائل الانتاج فتنهار الطبقات، وتضمحل الدولة وتتلاشى.

إذن كلا الاتجاهين الشهيرين في العالم المعاصر، كان يرنو إلى جعل الدولة مرحلة انتقالية لتحقيق مأرب ما، فهي إما ستكون دولة دون مخالب لدى النيوليبراليين، وإما دولة متلاشية ستجد نفسها تضمحل في خضم مجتمع صار جسدا واحدا يتملك وسائل انتاجه، وهو بالتالي أحرص على استمراره ونظامه بشكل تلقائي، دون الحاجة إلى سلطة علوية، وهذه نظرة الشيوعيين.. هي إذن الحرب الباردة، فكر فيها الرأسماليون بمنطق تحقيق الربح، ولا شيء غير الربح، فانتقوا من الدول ما يخدم مصالحهم، سواء دول مركزية أو دول عامرة بالخيرات والثروات، جمَّلوا هذه الدول بالأنوار والإعلام والأفلام والديكورات، فأصبح خلاب منظرها، هذا في حين ارتأت فيه الاشتراكية أن تكون الدولة مركزية مرحليا، من أجل سياسة الشعوب نحو الشيوعية المرجوة، فكانت الديكتاتورية، وصبغت المكاتب والدور الرسمية بلون رمادي باهت يعبر عن وحدة المصير والهدف الثوري..

الصين قادمة بنموذج نيوديكتاتوري جديد، نموذج سيعمم على باقي الدول، بوصفه نموذج المرحلة الموالية لفيروس كورونا، نموذج يجعل البلاد كلها نظاما واحدا له رأس واحدة

الدكتاتورية التي كانت مرحلة للوصول إلى الشيوعية، أضحت لذة تعتمر أفئدة الساسة، طاب مقامها في تلك الدول، بدأ من ستالين، مرورا بكافة الدكتاتوريين المتناثرين في العالم، الذين استحلوا المرحلة، وبقوا فيها قابعين، وأباحوا لسلطتهم عنان نزواتهم. استغلت الرأسمالية بما تملك من إعلام وتشهير، فجعلت نفسها حلم المستضعفين، الذين أرادوا أن يملكوا وسائل إنتاجهم، فوجدوا أنفسهم مملوكين من قبل الدكتاتور الحاكم باسم الشيوعية المنتظرة، لم تظهر الرأسمالية وجهها الحقيقي المتوحش، حافظت على قناع الرقي والحضارة والحرية، فسلبت العقول، وأنارت الأفكار، وفي كل فكر يستنير كانت هناك نفوس تتوق للتمرد والتحرر.

سقط الاتحاد السوفياتي وسقط الاشتراكيون تباعا، وباتوا بين متخف، وبين متراجع وتائب يرمي نفسه في حضن الرأسماليين، وبين آخرين ظلوا يقاومون ولو أن صوتهم ما عاد يسمع، في أتون عولمة سلبت الكل، عولمة كشفت عن قناع الرأسمالية المتوحش، وأضحى العالم يعيش نيوليبرالية جديدة، وشرخا كبيرا بين الطبقات، وتراجعا لدور الدول وانحسارها، بل وغدت العديد من الدول كما الخدم تمهد للمستثمر والشركات العالمية، سبل الدخول إلى أراضيها ولو على حساب هويات وأرزاق شعوبها. في هذا الوقت الممتد من الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، برزت دولة صامتة، كانت تعمل في سكون وتتحاشى الدخول في نزاع مع اعدائها، حتى وإن استفزوها، ظلت تكد دون ملل، يساعدها في ذلك رأسمال بشري كما النمل، يعمل بشكل آلي خدمة للرأس الحاكم الشيوعي الأساس، الرأسمالي المنحى والتوجه، هذا الخليط أو هذا الاستثناء يسمى بكل بساطة "دولة الصين".

ملأت أمريكا الدنيا صخبا وأقامت العالم ولم تقعده، لكنها الآن تقف مشدوهة، مرهوبة من هذا التنين الصيني القادم نحوها، والذي ينازعها كرسي زعامة العالم، تدرك أمريكا أن هذا التنين الذي يتحاشى الصدام معها، هو قادم بهذه السرعة لا لكي يقبلها ويقف عند رجليها مطيعا ككلاب الحراسة، بل قادم لكي يصدمها ويرميها من طريق الزعامة دون رحمة، لهذا تستفزه واشنطن، تريد من هذا القادم أن يتهور قبل أن تبلغ قوته التمام، ولكن هذا الصيني ليس أرعنا لتستفزه، إنه يعرف ما يريد.. الصين قادمة بنموذج نيوديكتاتوري جديد، نموذج سيعمم على باقي الدول، بوصفه نموذج المرحلة الموالية لفيروس كورونا، نموذج يجعل البلاد كلها نظاما واحدا له رأس واحدة، عبارة عن ديكتاتورية فيها الكل مطيع مراقب بأحدث تكنولوجيات الجيل الخامس، الأوروبيون بديمقراطياتهم سيجدون صعوبة في التعامل مع هذا النظام الجديد "النيوديكتاتورية الجديدة"، وبالتالي فإن أوروبا مرشحة للانقسام حتى في عز اتحادها وأجهزتها المثالية، أوروبا ستكون بين خيار النيوليبرالية الأمريكية أو النيوديكتاتورية الصينية، وحينما تميل دول أوروبا ستميل مستعمراتها الكلاسيكية معها.

هنا نطرح هذا التساؤل: هل من الممكن أن تنتهي الديمقراطيات الأوروبية بهذه السهولة؟ حينما يرى الإسباني أن الحكومة التي انتخبها فر موظفوها من إحدى دور العجزة ليتدخل الجيش محلها للرعاية.. حينما يرى الإيطالي استهتار وزرائه بشكل جعلوه عرضة لانتشار الوباء.. حينما يرى الفرنسي والبريطاني والأمريكي فشل هذه الحكومات في تدبير الأزمة.. حينما يرى هؤلاء نجاح نظام الحزب الوحيد في الصين، ونوعا ما في روسيا بتدبير هذه الأزمة.. إن هذا التمهيد المؤهل لتكبيل الديمقراطيات يحيل إلى مجموعة من الهلهلات الأخرى، هل أوروبا تستعد الرجوع لارتداء فستان الكونتيسات؟ هل أوروبا يتأهب رجالها ليكونوا نبلاء ورؤساءها أباطرة؟ هل أوروبا تنزع رويدا ثيابها الديمقراطية القصيرة الكاشفة، لتعود رويدا ودون إثارة الجلبات إلى الانغماس في الديكتاتورية شيئا فشيئا؟

الانتقال صعب حقيقة، أوروبا كمن ينزع جلدها لا ملابسها الديمقراطية، ما بعد كورونا لم يخطر على بال أوروبي، ولا تخيله لب معجب بأوروبا، ولا تمناه عدو يتربص بها.. ولأن العرب لبسوا التبان الديمقراطي فوق السروال الديكتاتوري ليرضى عنهم الغرب، بصورة أصبحوا فيها على هيئة السوبرمان، هم الآن حائرون ينتظرون أيضا! هل يكملون لباس الديمقراطية الذي لا يلائم أحجامهم البدينة، أم يسبقون أوروبا في العودة إلى الماضي المجيد؟

ما أسهل أن يعود العرب إلى ديكتاتورياتهم، وما أصعبها على أوروبا، لهذا لا أستبعد أن تنقلب الأمور رأسا على عقب، فالعرب وسكان الجنوب عامة، مزاجهم وعصبيتهم لا يجمعها إلا واحد، لكن هذا الواحد إما عليه أن يقودهم بالسوط والحديد أو بقوة الاحترام والتقدير.. قليلون هم من قادوا بقوة الاحترام بل نادرون، لكن الندرة التي أخرجت كورونا لتجعله امبراطورا لا يرى، هذه الندرة قادرة على إخراج من يصلح البلاد بدكتاتورية الاحترام والتقدير لا بدكتاتورية الجبر والتنكيل. الصين قادمة للنطح، وأمريكا تدرك هذا، وبين النطح وتفاديه، مؤشرات حرب عالمية تدق، ونظام عالمي بديل يخفق علمه، فهل سيتصادم العملاقان؟ أم أن تداخلات الاقتصادات العالمية ستحول دون قيام حرب كونية، وأن التفاهمات ستأخذ منحى التنازل بين الطرفين من سيتنازل للآخر، لا أظن راعي البقر سيفرط في الزعامة بهذه السهولة، ولا أظن الصين ستقف عنده بقرة ليرعاها.. الأيام القادمة كفيلة بالجواب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.