شعار قسم مدونات

أسئلة جوهرية في ماهية الفن

blogs لوحة

يعد الفن، من أقدم النتاجات البشرية، وتكاد لا توجد مستوطنة بشرية وصل منها شيء، إلا وصل فنّها إلينا، فلم أنتجت البشرية الفنون من اليوم الأول؟ وما السر وراء الإصرار على إنتاجه؟

  

هل الفن حاجة؟ أم وسيلة؟ أم ماذا؟

يقترح بعض منظري الفن أنه حاجة، ونحن نحتاج إليه؛ فالفن وسيلة للهروب من الواقع، الواقع ممل رتيب، أما الخيال فهو عالم غني وممتع، مفعم بالمشاعر والجمال، والفن هو الوسيلة للوصول إلى هذا العالم والتعبير عنه؛ وهكذا بدأ الفن بصفته حاجة لتعديل العالم المشوه وخلق العالم المثالي، بالإضافة إلى ذلك فهو وسيلة للتعبير عن الذات، فالرسام أو الموسيقار يتعرف على نفسه من خلال العمل الفني، وهو يدرك بهذا التعبير شخصيته، وملامحه الداخلية، فهو الطريق الذي تخرج فيه روحه إلى العلن، ويكون الفن بذلك وسيلة اتصال بين الأفراد والمجتمعات.

 

وقد تنوع الفنانون في مصادر الجمال والتي ينبغي للفن أن يتخذها مصدراً للإلهام، ففي حين كانت فنون الرسم والنحت في العصور الوسطى تعتبر الدين مصدراً لإنتاجه، كان الفنانون الرومانتيكيون يعتبرون الطبيعة مصدر الإلهام الأوحد؛ إلا أن مصادر الجمال قد تكون أبسط من ذلك، ويمكن للمرء أن يجد الفن في أي شيء حوله تقريباً، يعد الفنان الهولندي (يوهانس فيرميير) مثالاً على ذلك، فالرسام المذكور اشتهر بلوحاته التي كان يرسم فيها أشياء وأحداث اعتيادية جداً؛ مشهد من زقاق فقير، وامرأة تخيط الملابس، وأثاث منزلي اعتيادي، كل هذه مواضيع صورها فيرميير، وأنتج لوحات رائعة من أشهرها (الفتاة ذات القرط اللؤلؤي، وخادمة الحليب).

   

بمعنى آخر، لم يكن الإنسان بحاجة إلى مشاهد خلابة وأحداث درامية لإنتاج الفن، فقد وجد الإنسان حاجته للتعبير عن الفن في أي شيء حوله، حيوانات ترعى، أو طفل يشحذ، أو سماء ملبدة بالغيوم؛ وربما كان هذا السبب في العثور على رسومات على جدران الكهوف الداخلية منذ عشرات الآلاف من السنين، وهي تصور أشياء وحوادث أراد الإنسان تصويرها، ووجد في نفسه حاجة إلى تثبيتها على الجدران، تعبيراً عن حاجة داخلية، أو تخليداً لحدث رآه مهماً.

 

undefined

   

يرى الطرف الآخر من المنظرين أن الفن ليس حاجة، بل رغبة؛ فالإجابة على الحاجة تكون رتيبة وميكانيكية، كاستجابة رجل جائع للجوع، فيأكل أي شيء لسد الجوع، الفن ليس بهذه الرتابة والوظيفية، لذا لا يمكن أن يكون حاجة، بل هو رغبة داخلية في إنتاج التعبير، فيذكر المنظر المعماري (لويس كان) أن العالم لم يكن بحاجة إلى سيمفونية بيتهوفين الخامسة إلا بعد أن كتبها، وبعد أن كتبها لم نعد نتخيل العالم بدونها، إن العالم احتاج بيتهوفين ليس لحاجة أساسية فيه وإنما في رغبة بيتهوفين في التعبير عن نفسه؛ بمعنى آخر فإن حاجتنا للفن في هذه الحالة جاءت بعد رغبة داخلية، فالفن أصبح رغبة أولاً ثم حاجة.

 

أين الفن؟

ولكن، هل الفن في اللوحات والمنحوتات والمقطوعات الموسيقية حقيقةً، أم أن للمسألة نواحٍ اعتبارية؟ لنفترض أن شخصاً رسم لوحة فنية لجبال ووديان وسماء، فهل نعتبر أن الفن في اللوحة الفنية؟ في الحقيقة، ومن بعض وجهات النظر وليس جميعها طبعاً، فإن اللوحة ليست فناً، بل هي تعبير عن الفن لا أكثر، الفن هو في الجبال والوديان التي رسمها الفنان، سواء أكان المنظر حقيقياً أم تخيلياً؛ يكون الفن بالتالي هو في الأشياء الحقيقية والتخيلية والمشاعر والعواطف التي عبر عنها الفنان، أما المنحوتة والمقطوعة الموسيقية في ليست فناً، وإنما هي تمثيل للفن. إن الفن في هذه الحالة (كونه تمثيلاً لشيء آخر) يجعله أدنى مرتبة من ذلك الشيء، فلوحة تصور تفاحة أقل قيمة من التفاحة نفسها، ومنحوتة تجسد شخصاً، أقل قيمة من الشخص نفسه، ومقطوعة موسيقية تعبر عن الألم أقل قيمة من الألم نفسه، وهذا يحط من قيمة الفن مقابل الأشياء والعواطف التي يعبر عنها.

 

يرفع هذا سؤالاً جدلياً آخر، إذا كانت المناظر الطبيعية مثالاً على الفن، فما دور الإنسان؟ يقترح بعض المنظرين أن الفن يمكن أن يوجد بلا وعي، فالفن نراه نحن في جمال الطيور، وجلال الجبال؛ وبالتالي فإن الإنسان، الكائن الواعي، ليس شرطاً لإنتاج الفن، وهذه المسألة تهدم الكثير من النظريات والطرز والمدارس الفنية عبر التاريخ، إذ تم إنتاج أجمل الفنون بلا عقل واعٍ (على افتراض أن العالم وجد بلا عقل واعٍ، فإن كان الله هو خالق هذه الأشياء جميعاً يكون هو الفنان الأول، بحسب النظرية هذه).

 

تعريف الفن

ينظر الفلاسفة إلى الفنون بطرق مختلفة، فالعقلانيون يرونه على درجة دنيا، ومن هؤلاء أفلاطون، إذ يرى أفلاطون (وكما ذكرنا سابقاً) أن الفن تمثيل عن الحقيقة، وهذا يجعل الحقيقة أعلى درجة من الفن، والفن يصبح "محاكاة" لشيء أهم منه؛ ويقاربه في الرأي أيضاً فيلسوف الجماليات الألماني هيغل، أما كانط، فيربط بين الفن وبين الحُكم على الجماليات، وبين الفن وإمكانياته في التواصل المجتمعي، وعناصر تنظيرية أخرى كالدين والمعرفة.

  undefined

 

تواجه عملية تعريف الفن وتحديد أبعاده مشاكل عديدة، منها، العدد الكبير والتنوع الهائل لما يطلق عليها "أعمال فنية" من رسم ونحت ورقص وموسيقى وغناء وعمارة، وأعمال أخرى خارج هذا التصنيف، مما يجعل وضع قوانين محددة لتنظيم هذه الظاهرة مسألة صعبة. النقطة الثانية هو الامتداد التاريخي الطويل لهذا النشاط، واختلافه الثقافي من حقبة لأخرى ومكان لآخر، ما يجعل العمل نتاجاً لتلك الثقافة حصراً، وأي عمل آخر خارج حدود هذه الثقافة لا يعد فناً، مما يعطي الفن طابعاً محلياً وغير عالمي. نقطة ثالثة تمثل تحدياً لتعريف الفن، هو أن الأعمال الفنية في كثير من الأحيان كانت تعبيراً دينياً (كفنون العصور الوسطى)، وذات أبعاد اجتماعية أو سياسية، وهذا يعني أن العلاقات المنطقية بين الأفكار التي تعد تعريفاً للعمل الفني ستتداخل مع العلاقات المنطقية لمظاهر ثقافية أخرى، كالدين والفلسفة، وهذا التقاطع يزيد من تشابك الأفكار المحددة لماهية الفن. نقطة أخيرة، هي أن الكثير من خصائص العمل الفني (الجمال، التناسق، التأثير العاطفي وغيرها) توجد في أشياء أخرى غير فنية، فما هو الفن حقيقة؟

 

الفن الحديث

وضع بعض المنظرين خصائص معينة، والتي يؤدي توفر إحداها على الأقل، إلى اعتبار نتاج ما عملاً فنياً، كامتلاك خصائص جمالية، أو كونه أصيلاً، أو كونه تعبيرياً، أو كونه متناسقاً شكلياً، أو كونه يمثل اتقاناً حِرَفياً، أو كونه تعبيراً عن نية الفنان لمخاطبة جمهوره عن فكرة ما؛ وفي الحقيقة فإن معظم هذه الخصائص كانت تعمل على تعريف الأعمال الفنية بشكل جيد إلى حد ما، حتى مجيء الفن الحديث، الذي أصبح تحدياً حقيقياً لماهية الفن؛ فظهر فنانون يرسمون لوحة ليس فيها شيء سوى صفيحة بيضاء، أو فنان يعلق موزة على جدار، أو غيرها من صرعات الأزياء العجيبة، أصبحت هذه الحركات تمثل تحدياً حقيقياً لماهية الفن، والغاية منه، والسبب وراء إصرار المجتمعات عبر التاريخ على إنتاجه.

 

إن الفن الحديث، الذي لا يمتلك ربما أياً من الخصائص السابقة بسبب تجريده العالي، مثل تحدياً حقيقياً لجميع التعريف السابقة لماهية الفن، كما بدأ يتحدى الغاية من الفن، وماهية الهدف منه، وظهرت مدارس عبثية تقول بعبثية الفن، وأخرى تشكيكية تشكك في وجوده أصلاً، وأن الفن يكون فناً وإن تعمد الفنان إظهار القبح وعدم التناسق، في النهاية الفن مرآة وتعبير عن ثقافة المجتمع وأنماط التفكير السائدة فيه، ففي عصر النهضة الأوروبية، ظهر مئات الفنانين الذين أبدعوا في خلق اللوحات المتناسقة، وعبروا عن المنظومة الجمالية السائدة عندهم، مثل ليوناردو دافينشي، وميكيل أنجلو، ورافائيل؛ وعبرت العمارة المصرية عن الثقافة المصرية الملتصقة بالحياة الأخرى، وعبرت المنحوتات الإغريقية عن النظرة المثالية للجسد البشري؛ فإذا كان الفن في هذا الزمن عبثياً مضطرباً ومنفّراً، فما هو في الحقيقة إلا تمثيل عن حال المجتمع الذي أنتجه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.